الوحدة الوطنية بين المعارضة والمعاداة..

في السطور الثلاثة الأولى من مقدمة بحثه حول "أزمة المعارضة السياسية في الوطن العربي" يؤكد المفكر المغربي عبدالإله بلقزيز، استاذ الفلسفة بجامعة الحسن الثاني في الدار البيضاء، يؤكد إنه "في سائر المجتمعات الحديثة، التي أنجزت ثورتها الاجتماعية وأقامت الدولة الوطنية فيها، يُنظر إلى المعارضة السياسية نظرة تتجاوز إطار الحق والقانون إلى إطار السياسة والمصلحة العامة للوطن والدولة والأمة: بعد إشباع الحق طبعاً".. وبدلاً من نقد السلطة "التي ركزت عليه غالبية الدراسات" يركز الباحث في محور ورقته هذه على نقد المعارضة العربية التي يفترضها أن تكون جزء لا يتجزأ "من محاولة تأسيس الديمقراطية في الوطن العربي على أسس صحيحة وراسخة" (أنظر "المعارضة والسلطة في الوطن العربي/ أزمة المعارضة العربية"، مركز دراسات الوحدة العربية، ديسمبر 2001)..
وفي بحثه هذا، يؤكد مفكرنا بأن طلب الديمقراطيات الغربية على دور المعارضة يأتي في سياق قيمة الدور الذي تقوم به المعارضة.. تلك القيمة التي تتحدد حصرياً في مد الحياة السياسية بالاستقرار وحمايتها من الإضطرابات، وهي القيمة التي تجعل من المعارضة عنصر توازن في المجتمع وليس عبئاً أو مصدر إزعاج للسلطة السياسية في البلاد، أما الشرط الأساسي لحصول المعارضة على هذه القيمة وقيامها بهذا الدور فهو يتحدد في شرعيتها المستمدة من تمثيلها لكل القوى والفئات الاجتماعية وتعبيرها عن مصالحهم بشكل عام، بجانب شرعيتها المستمدة من الضمانات القانونية.
إذن شرعية المعارضة تتمثل، أولاً: في مدى حاجة المجتمع لها، ثانياً: في مدى تمثيلها لكل المجتمع ومصالحه، ثالثاً: في الضمانات القانونية بحقها في الوجود..

وهذه العناصر الثلاثة هي التي تمنح المعارضة القدرة على ممارسة دورها الأساسي كعنصر توازن في المجتمع، هذا التوازن الذي يدعى بالمصطلح السياسي الوحدة الوطنية.. وما تدفع به هذه الوحدة نحو الإزدهار والنهضة التنموية الوطنية التي تشمل كل فئات المجتمع والوطن بأكمله..
بمعنى آخر، إن لا شرعية لأية معارضة تكون عبئاً على السلطة، وعاملاً من عوامل اضطراب وعدم إستقرار المجتمع، وأسفيناً يشق الوحدة الوطنية، وعائقاً أمام التطور التنموي.. وهذه المعارضة اللاشرعية هي تلك التي لا تمثل كل قوى وفئات المجتمع، وتعتمد في وجودها على التمثيل الفئوي، سواء المذهبي أو الطائفي أو الأثني أو المناطقي أو العشائري.. وهذه الجماعات الفئوية لا تصنع معارضة سياسية بل تصنع عناصر الفرقة في المجتمع وكل ما يتبع هذه الفرقة من ضرب المصالح الوطنية في الداخل والخارج.. إذن هذه المجموعات الفئوية، اللاشرعية وطنياً، لا يمكن أن تُصنّف إلا في خانة القوى المعادية، التي تستمد قوتها من ضعف المجتمع.. فكلما زاد المجتمع تفككاً، زاد ضعفه.. وكلما زاد المجتمع ضعفاً، زادت هذه المجموعات الفئوية المعادية قوة، وتستغل قوتها في تحقيق المزيد من مصالحها الفئوية والذاتية، بالضغط على المجتمع ليزداد تفككاً وضعفاً.. وهكذا.. وللأسف إن مجتمعاتنا العربية باتت تعاني من هذه القوى التي بمجملها لا تملك مشاريع وطنية، بعد أن باتت محصورة في إطر فئوية ضيقة من جهة، ومتصارعة مع بعضها من جهة أخرى.. حتى تحولت إلى عامل تفكيك للوحدة الوطنية، وعامل إشعال الحروب الأهلية والصراعات السياسية المهددة لسيادة الوطن.. وإن كانت هذه الصورة في أوضح صورها على أرض لبنان وفلسطين، فإنها لازالت متوارية في الخليج العربي، رغم كل العنفوان الطائفي الذي تعاني منه المجتمعات الخليجية، والذي بات حديث الإعلام والأخبار العالمية..
إن التمثيل الفئوي، الذي بات سمة ما تُدعى بالمعارضة العربية (وأحياناً المقاومة)، أزاح الثوابت والقيم الوطنية الأصيلة التي حاولت الأحزاب السياسية العربية التمسك بها خلال القرن الماضي، وأحل محلها قيم جديدة تخدم التحزب الطائفي والفرقة المذهبية.. هذا االتمثيل الفئوي واللاشرعي، الذي بات هدفاً في استراتيجيات أعداء الأمة، هو ما تحاول أن تستمد منها هذه المجموعات المحلية شرعيتها، بفعل القوة والضغط في الداخل، والاستقواء بأعداء الأمة في الخارج.. لذلك لا حرج لدى هذه "المعارضات"" و"المقاومات"، من الإعلان عن هوياتها الطائفية واحتمائها بذرائع الدين والمذهب تارة، وذرائع حقوق الإنسان والبحث عن الديمقراطية تارة أخرى.. وعندما أرست هذه الجماعات الفئوية قيم الاستقواء بالأجنبي، وبأعداء الوطن، وزيارة السفارات الأجنبية سراً وعلناً، فهي بذلك كانت، ولازالت، تعمل ذلك لدعم وجودها اللاشرعي.. حتى لم تعد هذه الفئات ترى حرجاً في الإعلان عن رغبتها في وجود الأجنبي على قمة السلطة ببلداننا مقابل تحقيق أغراضها السياسية الفئوية ومصالحها الذاتية.. وهي ممارسات كانت إلى الأمس القريب، بل وحتى اليوم، تعد في العرف الوطني من أعمال الخيانة العظمى.
لذلك نتساءل، هل تلك المجاميع التي خرجت علينا خلال العقود الثلاثة الأخيرة، مدعية تمثيلها للطوائف، وأسبغت الشرعية والوطنية على ثقافة الولاء للخارج والاستقواء بالمستعمر والمحتل (مقتدية بنموذج "المعارضة العراقية" التي جلبت الاحتلال للعراق).. هل تُدعى هذه المجاميع بالمعارضة، أم بالمعادية لأوطاننا؟!