الحريات الاعلامية في الديمقراطيات.. (1)

كان، ولا يزال، الإعلام جزءاً رئيسياً من التطور الذي شهدته، وتشهده، ثورة التكنولوجيا والمعلومات، منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، حتى باتت فنون الإعلام ونظرياته الأدوات الأولى التي تعتمد عليها العمليات الأمنية والسياسية والعسكرية، وأصبح الإعلام من أهم أسلحة الغزو، العسكري والسياسي.. ويعد دور الإعلام في سقوط الاتحاد السوفييتي واحتلال العراق من أكبر الشواهد على قوة تأثير هذا الجهاز في حسم الانتصارات بساحات المعارك، حيث تمكنت القوى المعادية من تدمير الدولتين وتقسيمهما وإضعافهما بواسطة الإعلام قبل الإعلان الرسمي عن سقوطهما وانهيارهما.. وبأخذ هذه الحقائق في الاعتبار ينجلي كل شك حول مدى تأثير هذا السلاح على الدول والمجتمعات والأفراد وفي كل المجالات..


ولهذا يعد الوعي الإعلامي أحد أهم الادوات الثقافية التي يجب أن يتسلح بها الأفراد لحماية مجتمعاتهم وأوطانهم.. وصار الوعي بالإعلام وأخطاره مادة وطنية يجب الإلمام بها حتى نتمكن كمواطنين من رد المعتدين والمتربصين بمصالح أوطاننا، كما يدافع رجل الأمن عن أمن المجتمع، والجندي عن حدود البلاد.. فكل هذه المستويات الثلاثة باتت متساوية في الدفاع عن الوطن وسيادته ومصالحه..
ومن هذا المدخل يمكن القول أنه لا يمكن مقارنة الإعلام في ظل قمع الحريات بالإعلام الحر.. ففي الوقت الذي يعد الإعلام من أهم وسائل حماية أمن المجتمع وسيادة الوطن، فإن الإعلام غير المسؤول وغير المؤهل للممارسات الحرة يتحول لأشد الأداوات خطورة على أمن وسيادة البلاد، في ظل الديمقراطية، إن لم يتم تأهيله وتنظيم قنواته حتى يكتسب الحماية المطلوبة من داخله..
والمتتبع لقضايا المنطقة يمكنه أن يؤكد أنها تعيش حالة إعلامية تحمل ذات الأجندة التي تم تنفيذها على العراق قبل غزوه واحتلاله.. وأن الأجندة الإعلامية التي يتم تسويقها في الخليج والجزيرة العربية عموماً، والبحرين خصوصاً، هي أجندة المحتلين في العراق، ويتم ترويجها بنفس الأدوات التي روّجت للاحتلال، بدءاً بشق الصف الوطني وتأجيج الحالة الطائفية، وفصل الطوائف وبناء أحياء وقرى وتجمعات سكنية على أسس مذهبية ((ويعد الاعتصام، الذي استمر أكثر من أربعة أشهر، في أحدى القرى البحرينية لمنع الدولة من توزيع بيوت الإسكان التي شيدتها الحكومة في القرية على مواطنين من غير أهالي القرية أحد أحدث الوسائل في تنفيذ هذه الانشقاقات والإصطفافات وصولاً لبناء الجدران العازلة بين الطوائف في المدينة الواحدة كما حدث في العراق)).. وانتهاءاً بحالة المحاصصة الطائفية وتقسيم البلاد كما يجري على أرض الواقع في بلاد الرافدين..
على هذا الأساس يتم تقييم حال الإعلام البحريني خلال فترة التحول الديمقراطي التي يعيشها المجتمع منذ العام 2000م وحتى اليوم (العام 2008م)، ويمكن التأكيد على أن هذا الإعلام يعاني من أزمة كبرى، تتمثل بنشوء فراغ سياسي وثقافي في داخله كنتيجة مباشرة لعملية التحول المفاجئ من مرحلة قمع الحريات إلى مرحلة حرية التعبير عن الرأي وضمان حقوق الإنسان وعامة الحريات، دون أن يمتلك المشروع الإصلاحي الأدوات والسياسات الإعلامية اللازمة لهذه المرحلة الانتقالية.. في الوقت الذي استعدّت أطراف أخرى في داخل البلاد وخارجها بأدوات وخطاب إعلامي معادي لأمن المجتمع وهويته، ضمن أجندة وأيديولوجيا باتتا بوضوح الشمس.. وإذا علمنا إن كل الفئات الطائفية تعتمد على الإعلام كسلاح أساسي في ممارسة أدوارها المناهضة لأمن المجتمع والسلم المدني، لتيقّنا إن أهم أسباب نجاح هذه الفئات الشاذة، التي أفرغت المجتمع من ثوابته الوطنية والقومية وحلت محلها ثوابت طائفية غير وطنية، أهم أسباب نجاح هذه الفئات هو، أولاً: إيمانها بدور الإعلام النافذ في أية عملية سياسية كانت أو عسكرية.. وثانياً: إجادتها لتقنيات الإعلام ومتابعتها لأحدث الدراسات والنظريات الإعلامية في تطوير أدائها وأجهزتها الإعلامية.. وثالثاً: ارتباطها بأجهزة إعلامية واستخباراتية خارجية تنظم عملها وتدير معها عمليات خلق الأكاذيب وترويجها وتدويرها ما بين التضخيم والتعتيم، وما بين الداخل والخارج..
ومن المؤسف إن العملية الإصلاحية بمجملها لم تعطِ الاهتمام المطلوب للإعلام، ولم تملك حتى أي خط إصلاحي للإعلام الرسمي والوطني والجماهيري، يواكب خط الإصلاح السياسي الذي بدأ مع بداية الألفية الجديدة، حتى تمكنت الفئات الطائفية من الطعن في العملية بمجملها بصوت عال دون أن يظهر بالمقابل صوت يفند ادعاءاتها بسبب افتقار المبادرة الإصلاحية للقنوات والأقلام المعبّرة عن خطاب الإصلاح وفكره في مواجهة الغوغاء والأجندات التي تعمل بشكل مباشر في عكس اتجاه المشروع الإصلاحي..
وبالمراقبة عن قرب، يمكن القول بأن الاتفاق على العملية الإصلاحية التي تم الاستفتاء عليها بالأغلبية المطلقة من أصوات الشعب البحريني (12 فبراير 2002)، قبل غزو واحتلال العراق، تم التراجع عنه في ظل التطورات التي برزت على السطح بعد احتلال العراق، حيث باتت أطراف معينة ترى في الانتصار الإيراني، المدعوم أمريكياً، في العراق سبباً في إلغاء هذا الاتفاق والتوجه نحو تحقيق مكاسب كبرى تفرضها الحالة التاريخية، والمتمثلة في اختلال موازين القوى، التي تعيشها المنطقة.. ويمكننا القول بأن الأزمة السياسية المتواصلة التي تعيشها البحرين منذ العام 2003، كلها، تدور في هذه الدائرة..
وهنا نعيد التأكيد على دور الإعلام في تفعيل هذه الحالة، أو المواجهة، التي تفتعلها قوى متداخلة في مصالحها، ما بين الداخل والخارج.. وفي كل هذا يتم استخدام حرية التعبير عن الرأي، ومرحلة التحول الديمقراطي لتحقيق أهداف ومصالح غير وطنية..
فياترى هل ممارسات الإعلام البحريني يدخل في خانة الحريات أم العمل السياسي المنظم لزعزعة أمن وسيادة الوطن وضرب مصالحه؟؟..
مع عدم التعميم، يمكن القول بأن قطاع واسع من هذا الإعلام يعمل خارج حدود المسؤولية الوطنية وخارج إطر ومفاهيم الحريات المسؤولة.. ومن هذا الموقع اللامسؤول يتم العمل لزعزعة الأمن والنظام السياسي المتفق عليه في دستور البلاد، بذريعة حرية التعبير عن الرأي من جهة، ورفع بعض الملفات السياسية (المجيّرة طائفياً) من جهة أخرى..