إلى رئيس تحرير أخبار الخليج.. ألف تحية

منذ زمن، لم نسمع صوت إعلامي شريف، يعلن موقف وطني صادق، بنوايا إنسانية أمينة، في منطقتنا الخليجية، كالصوت الذي رفعه الإعلامي القدير الأستاذ أنور عبدالرحمن، رئيس تحرير أخبار الخليج، في مقاله يوم الثلاثاء 5 أغسطس 2008، مصرحاً عن رفضه نشر إعلان مدفوع الأجر (في صفحة كاملة) ضد الرئيس السوداني عمر البشير، لصالح منظمة عاملة في القاهرة تدّعي بأنها تعمل في قضايا العدالة الدولية.. ورغم إن هذا الموقف المعلن لرئيس تحرير صحيفتنا، ليس بغريب عليه أو جديد بالنسبة لي، بعد تجاربنا معاً في التصدي لهجمات الإرهاب الفكري والدفاع عن حرية التعبير عن الرأي، والانتصارات التي تحققت لهذه الصحيفة، بفضل دعمه ومواقفه الوطنية والمبدئية الصادقة، قبل سلوكه الإداري الإنساني الراقي.. رغم إن موقفه الأخير هذا، ليس بجديد أو مفاجئ، إلا إنني أجده مناسبة لأقدم له ألف تحية على وطنيته التي لا يساوم عليها، في هذا الزمان المادي الرخيص الذي صارت فيه المساومة على الوطن، وشراء الإعلاميين، وخصوصاً رؤساء التحرير وكتاب الأعمدة، من القيم المتداولة في العمل الإعلامي، حتى باتت بعض صحفنا أداة رئيسية في المشروع الأمريكي (لإعادة صياغة المنطقة) القائم على التقسيم والمحاصصة الطائفية..
في مقاله، أشار الاستاذ أنور عبدالرحمن بأنه قام باتصال هاتفي بالمنظمة المذكورة، مستفسراً عن هويتها وأهدافها، وسألهم عن أسباب صمتهم على جرائم جورج بوش في العراق، وهي جرائم لم يشهد التاريخ البشري مثلها، فكان جوابهم أن "هذا ليس وقته الآن، نحن نريد التركيز على محاكمة عمر البشير"..

فذكرتني هذه الإجابة، بالرد الذي حصلتُ عليه في أحد أيام نوفمبر 2003 من السيد روبرت فورد، نائب السفير الأمريكي في البحرين حينها (في لقائه مع مجموعة من الصحفيين بمناسبة عودته من بغداد التي قضى فيها ستة أشهر بعد الاحتلال، قبل أن يرجع إليها مرة أخرى ويصبح ثاني أهم دبلوماسي أمريكي في سفارتهم بالمنطقة الخضراء، بعد السفير، لمدة أربع سنوات حتى عام 2007) عندما سألته عن الأسباب الحقيقية وراء الغزو والاحتلال الأمريكي للعراق، إذ به يقاطع السؤال، ويجيب فوراً: "أرجو أن لا تقولي إنه النفط، لأنني لا أريد الحديث في هذا الموضوع".. وهذا التشابه في الأفعال والأقوال يكشف الخيط الذي يربط تلك المنظمات المنتشرة في مجتمعاتنا بالمشروع الأمريكي.. ولأنهم جميعاً يشتركون في خلفية تدريبية واحدة، بات من السهل تشخيصهم من خلال حوارهم الباهت الذي لم يعد قادراً على "كسب العقول والقلوب"، بعد أن استنفذت الإدارة الأمريكية كل سبل المراوغة والكذب..
وتأكيداً لما جاء في مقال رئيس التحرير حول بشاعة ما تخططه قوى الغرب الاستعمارية، لمستقبل هذه المنطقة، نُذكّر أن تلك الخطط لم تبدأ في دارفور ولا بقرار محاكمة الرئيس السوداني عمر البشير بكل تأكيد، بل بدأت باحتلال العراق واعتقال قيادته الشرعية وإغتيال رئيسه، بعد تنفيذ سياسات إعلامية ودبلوماسية مُحكمة لشيطنة هذا النظام، وهي السياسات التي سهّلت عملية الغزو والاحتلال وكل ما تبعهما من استباحة لبلاد الرافدين أمام دول الجوار، لتبدأ هذه في ممارسة دورها الطائفي لتقسيم العراق إلى فيدراليات الطوائف، كما هو مرسوم في المشروع الأمريكي لـ"إعادة صياغة المنطقة" في حدود جغرافية جديدة بهويات طائفية..
واليوم، بعد مرور خمسة أعوام عجاف على احتلال العراق وتدميره بشكل كامل، وما خلقه ذلك من خطر مباشر على الأمن القومي العربي بعد أن فقد أهم مقوماته المتمثل في توازن القوى الإقليمية.. وبعد أن باتت بلداننا تتأرجح في مهب الريح أمام التهديدات الخارجية.. وبعد ابتلاء مجتمعاتنا بإعلام وإعلاميين متواطئين مع الخارج، ومنظمات ذات تمويل وتدريب من الخارج، وقوى معادية تعمل بإسم المعارضة تستقوي بالخارج، حتى صارت بلداننا تترنح في مهب الريح أمام التهديدات الطائفية الداخلية لصالح الخارج.. وبعد ما يتعرض له السودان عموماً من استهداف مباشر يشير للتمادي الغربي الذي لن يتوقف عند الرئيس السوداني.. بعد كل هذا وذاك من المؤكد إن الأنظمة العربية باتت متأكدة بأن خسارتها كانت كبيرة عندما سمحت، بل ساهمت، باحتلال العراق، واغتيال قيادته..
من المؤسف إن القيادات العربية لا تملك أدوات قراءة التاريخ، وإن قرأت فإنها لا تتعظ..
لقد مرت المنطقة العربية بأشكال استعمارية مختلفة، مع كل ظرف دولي جديد.. بدأ الشكل الأول: بعد الحرب العالمية الأولى، التي أفرزت اتفاقية سايكس بيكو لتقسيم المنطقة بين الدول الأوروبية المنتصرة في الحرب.. وبدأ الشكل الثاني: بعد الحرب العالمية الثانية التي أفرزت الاستحقاقات الأمريكية في النفوذ الاستعماري، والحرب الباردة، وظهور حركات التحرر ومتطلباتها التي ألزمت الاستعمار على تغيير واجهته المباشرة ومؤسساته القمعية، والدخول في ما يدعى بمرحلة الاستقلال، أو التحكم الاستعماري عن بُعد.. أما الشكل الثالث: فهو ما نعيش إرهاصاته اليوم، والمتمثل في الصراع حول موقع القطب العالمي الأوحد، ومتطلبات هذا القطب في السيطرة الجيوسياسية على المنطقة، والهيمنة المباشرة على مصادر الثروة العربية، من خلال مشروع "إعادة صياغة المنطقة" الذي كرّس كل آلياته لتأجيج صراعات طائفية وأثنية في المنطقة، بهدف تقسيمها إلى دويلات طائفية هامشية وضعيفة وفاقدة السيادة، لتبقى تحت الحماية الغربية المباشرة..
في كل هذه المراحل الاستعمارية كان الهدف الأول والأخير هو النفط..
النفط في العراق.. النفط في الخليج العربي.. النفط في السودان.. والنفظ في شمال أفريقيا..
الهدف الاستعماري واحد، والمشاريع الاستعمارية متغيرة.. والنظام العربي الرسمي لا حول له ولا قوة.. لذلك يمكن اليوم تعريف أزمة النظام العربي الرسمي عموماً، وأزمة الرئيس السوداني خصوصاً، بتلك المأثورة الخالدة للأمام علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، "أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض".. فهي إذن أزمة ما بعد العراق.. وأزمة ما بعد اغتيال الرئيس العراقي، صدام حسين..
فيا ترى من هو الزعيم العربي القادم، بعد الرئيس السوداني، في قائمة التصفيات الأمريكية..!!؟.
ويا ترى كيف ستتصدى الأنظمة العربية لتلك المنظمات المشبوهة والمنتشرة كالفطر في مجتمعاتنا، لتنفيذ أجندات المشروع الأمريكي، تحت أشكال ومسميات مختلفة.. العدالة الدولية، حقوق الإنسان، التنمية والعدالة، الإصلاح والديمقراطية، الشفافية، ... بلا حدود، .... بلا طائفية، وغيرها ؟؟!!..
لهذا كله، أشد على يد الاستاذ أنور عبدالرحمن، وأؤكد أهمية دوره فيما تعهّد به في نهاية مقاله بأن هذه الصحيفة التي يترأس تحريرها "والتي أخذت على عاتقها طوال تاريخها مهمة الدفاع عن قضايا الأمة وعن أوطاننا العربية، لا يمكن في أي يوم من الأيام أن تكون أداة لخدمة أي قوى أجنبية مشبوهة، أو للترويج لأي أجندة أجنبية تستهدف أوطاننا العربية".. ويجب أن نشير بأن تلك المنظمة المشبوهة في القاهرة، التي أكدت بأنها إختارت صحيفتنا، من دون كل الصحافة البحرينية، لنشر إعلانها المشبوه، أعطت شهادة حقيقية على وطنية ومهنية أخبار الخليج التي تحاول تلك المنظمة إستغلالها لإضفاء الشرعية على إعلانها المشبوه..
شكراً أبو جبران..


كلمات دالة: