الحريات الاعلامية في الديمقراطيات.. (2)

لمواجهة خطر الإعلام على مصالح وسيادة أوطاننا، يتعين على كل فرد في مجتمعاتنا العربية التسلح بالوعي الإعلامي والتعرف على مدى خطر الإعلام وكيفية التصدي له كما تتصدى له تلك الديمقراطيات العريقة.. إذ لم تتوانى أية دولة منها، بدعوى حماية أمنها القومي، من الحد من حريات الإعلام والتعبير عن الرأي.. تلك الحريات التي ما برحت الديمقراطيات الأوروأمريكية تتشدّق بأنها عمود نهضتها، ولازال البعض في مجتمعاتنا مبهوراً بها مقارنةً بالممارسات العربية الهزيلة في مجال الإعلام..
يدرس طلبة الإعلام عموماً عن فلسفة الصحافة ونظرياتها، وتوصيفاً لهذه النظريات كما تُمارس في دول العالم (نظريات الصحافة الأربع).. حيث إن جزء من فلسفة الإعلام يبحث في العلاقة الجدلية بين الإعلام كعلم وبين ممارساته الفعلية في الواقع الإجتماعي..

ولأن النظرية الإعلامية هي انعكاس للعملية الإعلامية (وليس العكس)، ولأن هذه النظريات هي عبارة عن نصوص توصيفية للظواهر الإعلامية وسبل التحكم بها من قبل السلطات وأثرها في المجتمع، فإن عدد هذه النظريات يزداد بزيادة النماذج الإعلامية ونظم ممارساتها وتطبيقاتها في العالم.. بمعنى أن فلسفة ونظريات الإعلام التي نتعلمها هي خلاصة النماذج الإعلامية وتطبيقاتها في دول العالم..
لذلك لم تعد علوم الصحافة محصورة في تلك النظريات الأربع المعروفة، وهي نظرية السلطة، ونظرية الحرية، ونظرية المسؤولية الاجتماعية، والنظرية الاشتراكية، إذ ظهرت نظريات جديدة هي النظرية التنموية، ونظرية المشاركة الديمقراطية..
وما يهمنا هنا هو "نظرية الحرية"، التي بعد أن هجرتها دول الغرب الديمقراطية، باتت مطلباً ملحاً في بلداننا العالمثالثية، ونستعين في فهم ذلك بما جاء في محاضرات الدكتور محمد فلحي الموسوي لطلبة الماجستير، قسم الإعلام والاتصال، حول "نظريات الاتصال والإعلام الجماهيري"، وجاء فيه أن نظرية الحرية "ظهرت في بريطانيا عام 1688م، ثم انتشرت إلى أوروبا وأمريكا، وترى النظرية أن الفرد يجب أن يكون حراً في نشر ما يعتقد أنه صحيحاً عبر وسائل الإعلام، وترفض هذه النظرية الرقابة أو مصادرة الفكر"، وتهدف إلى "تحقيق أكبر قدر من الربح المادي من خلال الإعلان والترفيه والدعاية"، لكن الهدف الأساسي من نظرية الحرية "هو مراقبة الحكومة وأنشطتها المختلفة من أجل كشف العيوب والفساد وغيرها من الأمور، كما أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تمتلك الحكومة وسائل الإعلام.. أما كيفية الإشراف على وسائل الإعلام في ظل الحرية فيتم من خلال عملية التصحيح الذاتي للحقيقة في سوق حرة، بواسطة المحاكمة".. ثم يشير الباحث لأهم الإنتقادات التي تعرضت لها نظرية الحرية بأنها جعلت وسائل الإعلام "تُعرّض الأخلاق العامة للخطر، وتقحم نفسها في حياة الأفراد الخاصة، دون مبرر، وتبالغ في الأمور التافهة من أجل الإثارة وتسويق المادة الإعلامية الرخيصة، كما أن الإعلام أصبح يحقق أهداف الأشخاص الذين يملكونه على حساب مصالح المجتمع، وذلك من خلال توجيه الإعلام لأهداف سياسية أو اقتصادية، وكذلك من خلال تدَخّل المعلنين في السياسة التحريرية".. وهنا يؤكد بأنه "يجب أن ندرك أن الحرية مطلوبة، لكن شريطة أن تكون في إطار الذوق العام، فالحرية المطلقة تعني الفوضى، وهذا يسيء إلى المجتمع ويمزقه"..
لذلك ألغت تلك الدول (الديمقراطية) ممارسة نظرية الحرية في الإعلام وتوجهت إلى "نظرية المسؤولية الاجتماعية" التي تقوم على "ممارسة العملية الإعلامية بحرية قائمة على المسؤولية الاجتماعية".. وكانت الولايات المتحدة الأمريكية أول الدول التي أخذت بهذا النهج في الإعلام بعد وضع "القواعد والقوانين التي تجعل الرأي العام رقيباً على آداب المهنة.." (المصدر السابق).
لعل هذه التفاصيل التاريخية تتمكن من تصحيح بعض المفاهيم المنتشرة في مجتمعاتنا حول الحريات الإعلامية.. ولعل المنبهرين بممارسات الإعلام في الديمقراطيات الغربية يستدركون أن ليس هناك حرية مطلقة حتى في الإعلام، وإن "الحرية حق وواجب ومسؤولية في نفس الوقت".. وإن البريق الذي يضيء الواجهة الإعلامية الغربية يعتّم على الحقائق في ممارسات هي أقرب إلى القمع من الحرية.. وإن ذلك الإعلام (الحر) ملتزم بنظرية المسؤولية الاجتماعية من خلال مستويات أو معايير مهنية تفتقدها نظرية الحرية.. وفي الجانب الآخر فإن المسؤولية الاجتماعية أولاً: تفرض أن تتولى وسائل الإعلام "تنظيم أمورها ذاتياً في إطار القانون والمؤسسات القائمة، وأن يكون الإعلاميين مسئولين أمام المجتمع كما هم مسئولين أمام مؤسساتهم الإعلامية".. وثانياً: تهدف إلى "رفع مستوى التصادم إلى مستوى النقاش الموضوعي البعيد عن الانفعال، كأهداف اجتماعية، كما تهدف إلى الترفيه والربح.." (المصدر السابق)
ولكن، ياترى هل حقاً الإعلام في تلك الديمقراطيات ملتزم بمعايير "نظرية المسؤولية الاجتماعية" بشكل ذاتي أم أنه ملتزم بها بقوة القانون؟.. وهل حقاً هناك حرية ملتزمة في الإعلام الغربي أم أن هذا الإعلام أداة من أدوات الترويج للفكر الغربي وسياساته في العالم فقط؟..
هذا ما سنجيب عليه..