الحريات الاعلامية في الديمقراطيات.. (3)

هل حقاً الإعلام في الديمقراطيات الغربية ملتزم بمعايير "نظرية المسؤولية الاجتماعية"، وهل هذا الالتزام ذاتي أم بقوة القانون؟.. هل هو إعلام ملتزم أم أداة ترويج للفكر الغربي وسياساته في العالم؟..
منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية فرضت الديمقراطيات الغربية على مجتمعاتها، وعلى مستعمراتها، مشروع "الحرب على الشيوعية"، وتحت هذه الذريعة مارست هذه الدول كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة في قمع كل معارضيها بدعوى انتمائها أو تأييدها أو الإشتباه بتأييدها للفكر الشيوعي.. وسُمّيَت فترة ستينيات وسبعينيات القرن الماضي في الولايات المتحدة الأمريكية بالمكارثية نسبة لمن أسس لهذا القمع الوحشي، فكانت حريات النشر والتعبير عن الرأي ووسائل الإعلام في مقدمة ضحاياه، فلم يخرج في الإعلام أي صوت معارض لتلك السياسيات... وامتد قمعهم الوحشي إلى "مستعمراتهم"، حيث كانت أجهزة المخابرات والمعتقلات في بلداننا العربية، وشبيهاتها من بلدان العالم الثالث، تدار بواسطة جنرالات المخابرات البريطانية والأمريكية، طوال تلك السنوات (قبل وبعد الاستقلال)، بشكل مباشر وغير مباشر.. فخنقت هذه الأجهزة وسائل الإعلام وكل الأصوات المعبّرة عن آمال الشعوب في الحرية والديمقراطية، بدعوى "الحرب على الشيوعية" التي استمرت حتى نهاية القرن العشرين..
ومن أغرب المصادفات (التي نؤمن اليوم بأنها لم تكن مصادفة) إنه في عشية الإعلان عن انتهاء الحرب الباردة و"الحرب على الشيوعية"، وبدء القرن الواحد والعشرين، إذ ببلاد الغرب تتعرض لاعتداء تم تسميته بـ"الإرهابي".. فكانت أحداث 11 سبتمبر 2001 فرصة (لا يمكن أن تكون غير مدبرة) لإطلاق المشروع الاستعماري الجديد "الحرب على الإرهاب"، ليبدأ عصر جديد من قمع الحريات..


بعد أيام قليلة من أحداث 11 سبتمبر، وبالتحديد في 26 أكتوبر 2001، وقّع الرئيس الأمريكي جورج بوش على "قانون الوطنية الأمريكية" المعروف بإسم US Patriot Act، لمحاربة الإرهاب، ليصبح قانوناً شاملاً يمس كل جوانب الحياة الشخصية والسياسية والمالية في المجتمع الأمريكي بجانب تشريعات مكافحة الإرهاب الدولي.. وبدعوى حماية الأمن القومي فرضت هذ القوانين قيوداً صارمة، وغير دستورية، على حرية النشر وتدفق المعلومات والإعلام والتعبير عن الرأي، وفرضت رقابة تامة على المراسلات والمواقع الإلكترونية، وأجازت لأجهزة المخابرات التنصت على المكالمات الهاتفية والحسابات الشخصية والحصول على المعلومات الخاصة والعامة عن الأفراد والمؤسسات.. وأجازت القبض على أي إنسان داخل أو خارج الأراضي الأمريكية (السجون الطائرة)، بدون توجيه أية تهمة محددة، مع حق عدم إطلاع محامي المتهمين بالتهم وعدم الكشف عن أدلة الإدانة في المحاكمة بدعوى الخوف على الأمن القومي وعمل الأجهزة الأمنية.. وأجاز اعتقال أو إبعاد أي شخص أمريكي أو غير أمريكي يقدّم أي نوع من المساعدة، حتى لو كانت قانونية، لمجموعات، حتى لو كانت غير مصنفة في قائمة الإرهاب، لأن القانون يعطي الحق لوزير الخارجية الأمريكي بأن يصنفها لاحقاً كمجموعات إرهابية، ومن ثم يمكن محاسبة كل من قدّم المساعدة لها بشكل رجعي.. وكان الإعلاميون من أبرز ضحايا هذه القوانين، ما بين القتل والاعتقال.
هذا جزء يسير من التشريعات الأمريكي لمكافحة الإرهاب، والذي يصفه القانونيون بأنه بذاته يمارس الإرهاب.. ويقول عنه الدكتور مصطفى العاني بأنه "لا يوجد قانون في العالم يعطي سلطة للأجهزة الأمنية مقارنة بهذا القانون، هذا القانون أزال كل الحصانة التي يتمتع بها المواطن وغير المواطن" (قناة العربية، برنامج "صناعة الموت"، 7/9/2007).. وفي المملكة المتحدة أصدرت حكومة توني بلير عدة قوانين في ذات المنحى وبذات الصلاحيات الأمنية والمخابراتية.
الصحافية الأمريكية الشهيرة على الصعيد العالمي، "آمي جودمان" أصدرت مؤخراً كتاب بعنوان "الاعتراض على الحكام" يفضح أكاذيب مزاعم حرية الإعلام في بلادها.. وقد استشهدت في ذلك بالعديد من الأدلة والبراهين الحية.. كتبت عنه صحيفة الخليج الإماراتية، ونقتبس منه الجزء التي تتحدث فيه المؤلفة عن صحيفة "نيويورك تايمز"، كبرى المنابر الإعلامية الأمريكية، وتذكرنا باعتراف الصحيفة حول "أحد صحفييها، واسمه جايسون بلير، الذي ظل على مدى سنوات عديدة يخدع قراءه بفبركة قصص وأخبار لا علاقة لها بالحقيقة. فقد كان يتظاهر كذباً بأنه زار أماكن لم تطأها قدماه، وينقل أخباراً وتصريحات لم يتفوه بها من ينسبها إليهم، وقد أنهت الصحيفة خدماته، وأوقفت سيل أكاذيبه، ولكن الصحيفة، كما تقول المؤلفة، استمرت في نشر أكاذيب من هم أكبر منه وأهم على صدر صفحاتها الأولى.. أولئك الذين يروّجون للدعاية الحكومية، وعلى عكس جايسون بلير، يقدمون ذرائع للحرب، ولذا فإن أكاذيبهم تؤدي إلى ازهاق أرواح أناس أبرياء. وتسترسل المؤلفة في سرد الأكاذيب والمعلومات المضللة التي راجت في تلك الفترة عن أسلحة الدمار الشامل وغيرها، مما ثبت بطلانه فيما بعد، والتي كانت تروّج لها وسائل الإعلام الأمريكي بكل حماسة. وتنتقد المؤلفة نمط الإعلام الأمريكي الذي ساد عندما بدأت الحرب على العراق، وتقول: ما أن بدأت القنابل تنهمر، حتى أصبح النمط الإعلامي على النحو التالي: إيجاز صحافي في بثّ مباشر من وزارة الدفاع، يتلوه إيجاز من البيت الأبيض، وبعده وزارة الدفاع، ثم ينتقل الإرسال إلى ما وراء البحار لتجديد المعلومات من وزارة الدفاع، ثم بعض الإعلانات التجارية، ثم عودة إلى الاستوديو، إلى بعض التحليلات من الجنرالات المتقاعدين، ثم عودة إلى القيادة المركزية، ثم إلى المراسلين المرافقين للقوات الأمريكية. وتتساءل المؤلفة: لماذا يؤيد الإعلام الجمعي الأمريكي الحرب ويحضّ عليها؟، وتجيب قائلة إن الإجابة تكمن في الشركات نفسها، الشركات التي تملك منافذ الأخبار الرئيسية. ففي وقت حدوث حرب الخليج العربي الأولى، كانت شبكة (سي.بي.إس) مملوكة لشركة وستنجهاوس، وشبكة (إن.بي.سي) مملوكة لشركة جنرال الكتريك.. أي أن أثنتين من الشركات الكبرى لصناعة الأسلحة النووية تملكان اثنتين من الشبكات الإعلامية الكبرى. وكانت شركتا وستنجهاوس وجنرال الكتريك تنتجان معظم القطع والأجزاء للعديد من الأسلحة المستخدمة في حرب الخليج.. وليس من المستغرب والحالة هذه، أن يبدو معظم التغطية الإعلامية التي تقوم بها هاتان الشبكتان أشبه بعرض للعتاد الحربي" ("الخليج" الإماراتية 21- 22- 23- 24 /2/2005) وتسرد المؤلفة في كتابها، أسماء الشركات الصناعية الكبرى التي تملك كل وسائل الإعلام الأمريكي ومصالح هذه الشركات التي تدار بواسطة الإعلام وسياسات الإدارة الأمريكية.
ياترى هل هذا هو الإعلام الحر؟؟!!