كارثة العراق .. والضمير العالمي

بات أكيداً إن الجرائم المستمرة في تدمير البشر والحجر بالعراق على مدار ما يقارب خمس سنوات من احتلاله بواسطة القوات الأنجلوأمريكية الصهيوصفوية في مارس 2003 وحتی اليوم، آنها جرائم منظمة ومخطط لها مسبقاً، وما هي بأعمال عفوية.. كما لا يمكن أن يصدق عاقل بأن هذه الكارثة غير الأخلاقية وغير الإنسانية، التي حلت العراقيين، بفعل الاحتلال والمحتلين، خارجة عن السيطرة، وأن ما من قوة أو سلطة قادرة علی إيقاف كل هذه الجرائم.. بل ان الأحداث اليومية التي تتداولها وسائل الإعلام تثبت بشكل قاطع أن عمليات قتل العراقيين وتدمير العراق كانت ضمن الاستراتيجية الأمريكية لاحتلال العراق، وندار بأدواتهم وتحت إشرافهم بمنهجية دقيقة لتحقيق أهداف بعيدة المدى، لم تعد خافية... أهمها إنهاء الدولة العراقية بكل بُناها ومؤسساتها وتغيير الديمغرافية العراقية بكل طوائفها وأثنياتها استعداداً لإعلان تقسيم العراق إلى دويلات طائفية ضعيفة ذات سيادة وعضوية في الأمم المتحدة.. وبعدها سيتغير نمط الصراع بكل تاكيد، كما هو البوم وفي الصراع الإسرائيلي الفلسطيني...
ماذا يحدث في العراق؟.. سؤال نوجهه للضمير العالمي...
هذه البلاد الأغنى بثرواتها النفطية والزراعية ومصادرها المائية والأقوى بكوادرها العلمية وأبنائها المتعلمين وثقافاتها المتنوعة وتاريخها الحضاري الممتد في عمق تاريخ الخليقة.. هذه البلاد وهذا الشعب يعيش اليوم، ومنذ خمس سنوات، في حال أدني من حال أفقر دول العالم، بينما أنعش النفط العراقي الاقتصاد البريطاني، وحفظ الاقتصاد الأمريكي المتردي من الانهيار.. هذا الشعب يعيش بدون كهرباء وبدون ماء صالح للشرب، بدون مستشفيات، بدون دواء، بدون أمن واستقرار.. وهذه كلها من أهم ضروریات ومستلزمات الحياة..

أما صراخ هذا الشعب فقد اخترق قلوبنا لشدة وبشاعة جرائم القتل والتعذيب واغتصاب النساء في مئات السجون المنتشرة في العراق، العراق، وتعذيب الأطفال العراة في ما يُدعي بمراكز الأحداث.. انتشار الأطفال اليتامى المشردين في الشوارع.. انتشار المخدرات الذي بات ظاهرة اجتماعية خطيرة تهدد المجتمع العراقي ولم يكن يعرفها قبل الاحتلال.. ظاهرة الخطف والجثث المقطوعة الرأس والملقاة في الشوارع.. ظاهرة سيطرة القوى الدينية الطائفية على الجامعات وممارسة الطقوس والشعائر الدينية في ساحاتها وأروقتها.. ظاهرة قتل النساء السافرات في الشوارع.. ظاهرة قتل الأطباء والعلماء والأكاديميين لإخلاء العراق من العقول التي قد تفكر في بناء بلادها مستقبلاً..
رجعت مراكز الدراسات نعرض أرقام جديدة عن الأعداد المتزايدة من القتلى في العراق، وأحدثها ما نُشر في تقرير أوبينيون ريسيرتش بیزنز(Opinion Research Business)، وهو مركز بريطاني محايد لاستقصاء الرأي، والذي أعلن مؤخراً عن عدد يزيد على مليون عراقي قُتلوا منذ الاحتلال، وما يزيد على مليونين أرملة عراقية وأكثر من خمسة ملايين طفل يتيم.. وفجأة أصبح الشعب العراقي يعيش حالة الفقر المدقع، وحرمان الغالبية العظمى من أطفال العراق من التعليم، وتفشي الأوبئة والأمراض، وانتشار المدن العشوائية والمخيمات التي يلجأ لبنائها آلاف العراقيين هرباً من القتل..
وصارت بغداد، مدينة السلام، وغيرها من المدن العراقية مرتعاً وغابة تصول وتجول فيها عصابات السرقة والنهب تدعمها الميليشيات المسلحة في المدن والمحافظات العراقية.. وبدأت الصحف تتناقل أخبار قتل الأطفال في بيوتهم في مدينة البصرة مما تسبب في ذعر الأهالي وإطلاق سيل من القصص حول إقدام جماعات وأنصار المهدیس على قتل الناس بلا تمییز لنشر المعاصي تعجيلاً لظهور الإمام المهدي، مما دفع بسكان البصرة لتولي مسؤولية حماية أنفسهم وعائلاتهم وأحبائهم ومدنهم وقراهم في ظل استباحة البلاد، فيتناوب الأهالي على الحراسات في الليل والنهار ليمنعوا الغرباء من دخول مناطقهم (الحياة 31 يناير 2008)..
من الجانب الأخر يبدو أنه قد حان دور مدينة الموصل في مسلسل تدمير المدن العراقية.. فتوجهت القوات الأمريكية وما تدعى بالشرطة العراقية إلى هذه المدينة وبدأت بتدميرها وصار الإعلام يشير إلى نوايا لتحويل الموصل إلى فلوجة ثانية، بذريعة القضاء على القاعدة..
إن الحالة الإنسانية المؤلمة التي يعيشها الشعب العراقي، التي تقطع الأفئدة وتبث الحزن والكرب في النفوس، يتم اليوم تداول مشاهدها في برامج وأخبار الفضائيات ضمن سياسة إعلامية عالمية تمت تجربتها على الحالة الفلسطينية وثبت نجاحها.. وهي سياسة الاسترسال في نشر هذه التقارير والمشاهد المؤلمة والمحزنة، والاستمرار في هذا الاسترسال، حتى تصبح الحالة العراقية المؤلمة جزءاً ثقيلاً في الروتين الأخباري اليومي، فتتعود عليها الأسماع والأبصار، وتشكل برنامجاً مکرراً ومملاً في الحياة اليومية، وبالتالي نرفض الجماهير مشاهدتها تلقائياً لمدى كثافتها وثقلها على النفوس.. وهكذا يتوقعون أن يتحوّل المشهد العراقي إلى خبر ثقيل وممل فتكون المقاطعة نصيبها..
ولكنهم نسوا أن أخبار المقاومة العراقية المتداولة في كل مكان على الأرض، وفي كل موقع على الفضاء التكنولوجي الافتراضي هي التي ستبقي زادنا ومصادر متابعتنا، كما كانت ومازالت أخبار مقاومة الشعب الفلسطيني في سبيله وسبيلنا في إبقاء هذه القضية مستمرة تقض مضاجع المحتلين..
ومن كل هذا لن يزودوا شعوب هذه المنطقة إلا بالمزيد من الكراهية والاحتقار لأولئك المسترسلين في غيهم وجرائمهم اللاأخلاقية واللاإنسانية.. أولئك هم الغرب الأوروأمریکی