شتان ما بين ضوابط العمالة الأجنبية والإتجار بالبشر..

عشنا فترة السبعينيات حينما تم فتح كل الأبواب وتسهيل كل الإجراءات والقوانين، على مستوى خليجنا العربي، لاستقدام العمالة الأجنبية الرخيصة، وخصوصاً الآسيوية، لتحل مكان العمالة الوطنية في جميع مجالات العمل، دون استثناء، ضمن سلسلة من الخطط التي عملت على تغيير ثقافة المجتمع الخليجي في كل مناحي الحياة، وأهمها التعليم والعمل..
منذ ذلك التاريخ، وبسبب رخص استيراد العمالة، ويسر السيطرة على العامل الأجنبي عبر نظام "الكفيل" اللاإنساني، وفي ظل عدم وجود أية رؤية مستقبلية تختص بسياسات العمالة في الخطط الإنمائية وأطرها المرحلية، وعدم وجود خطط استراتيجية من شأنها المسك بزمام التغيير على أسس علمية وملبية لمصالح الوطن والمواطن، ضمن كل هذه الأسباب والظروف الاستثنائية، وغير السوية، بدأ المجتمع الخليجي عموماً ينحى باتجاه ممارسات سلبية ودخيلة عليه في بيئة العمل والعمالة.


بإختصار شديد يمكننا القول بأننا على مدار عقود تعايشنا، أفراداً ومجتمعات ومؤسسات، مع سلبيات تلك المرحلة بالكثير من اللامبالاة، لأنها كانت تدر بالربح الوفير من جهة، وتوفر نوع من الرفاهية الخادعة والمعتمدة على ثقافة الكسل (أحلى من العسل) من جهة أخرى، حتى صار المجتمع الخليجي شبيهاً بـمجتمع "تنابلة السلطان"، اللذين كانوا لشدة كسلهم يرفضون حتى التفكير في أي أمر من الأمور، مهما كان مهماً، لكي لا يتعبوا..
وهكذا دخلنا القرن الواحد والعشرين، مع كل ما جاء به من متغيرات أممية ومتطلبات دولية، ومجتمعنا يعيش في جمود القرن السابق، بدون أي تطوير في منظوماتنا القانونية نحو تغيير أو تعديل واقع ثقافي واقتصادي لا يشبه واقع أية أمة على وجه الأرض بما تميّز به من رفاهية معتمدة على جهد الآخر، وبصورة غير لائقة بأمة حضارية "تأكل مما تزرع، وتلبس مما تنسج".. لا، بل إن ثقافة الاعتماد على جهد الآخر ظهرت بأسوأ صورها في تربية أبنائنا الذين باتوا يشبهون خدمهم ومربياتهم (الأجنبيات) أكثر مما يشبهون أمهاتهم وآبائهم، في ثقافتهم ولغة التفاهم فيما بينهم ونمط أكلهم ولبسهم وتفكيرهم، بل حتى في ارتباطهم بواقعهم وبهويتهم..
واليوم، وقد مسكت مملكة البحرين بزمام المبادرة، على المستوى الخليجي، نحو تغيير ذلك الواقع السلبي في تشريعاتها الخاصة بسياسات استخدام العمالة الأجنبية، فإنه يجب التأكيد على عدم الوقوع في ذات الخطأ مرة أخرى.. فتصحيح الخطأ بخطأ آخر قد يكلّفنا أكثر مما خسرنا خلال العقود الماضية من سياسات العمالة.. ولذا بات من أهم متطلبات هذا التغيير هو تفادي منهجية القرارات الفوقية، وسياسات التغيير الفجائي والكلي، مما قد يقلب الوضع من حال إلى حال لا ندرك أبعاده.
لقد خلقت السياسات والقوانين السابقة ثقافة عمل جديدة، بدءاً بتعالي العمالة الوطنية على الكثير من الاعمال والحرف متدنية الأجور، وتفشي ثقافة التسيب وعدم الالتزام بالعمل وتلاشي ثقافة الولاء والأمانة المهنية.. وانتهاءاً بترويج وإرساء مفاهيم جديدة بين أصحاب الأعمال، قائمة على الربح السريع والمعتمد على العمالة الأجنبية والأجور المتدنية.. واستمر هذا الوضع لأكثر من ثلاثة عقود، وبناءاً على هذه الثقافات والمفاهيم المتبادلة بين العامل وصاحب العمل تم بناء الصرح الاقتصادي الخليجي عموماً، ضمن قواعد مائلة نحو الخطأ مما يتطلب تغييره بحذر شديد وليس تفجيره، إن كنا ننشد التصحيح وليس التدمير.
ومع سن قوانين جديدة تلغي نظام "الكفيل" الذي عُرف به المجتمع الخليجي من دون كل المجتمعات الأخرى، فإننا نتجه نحو كسر أصول وأعراف كثيرة تم بناؤها خلال العقود الماضية على أسس خاطئة، ولكن هناك ضرورة بالغة لدراسة آثار استخدام أو وعدم استخدام العمالة الأجنبية في ظل عدم وجود هذا النظام، وبالتالي وضع ضوابط جديدة وآمنة وعادلة لجميع الأطراف، كما هو الوضع في الأمم الأخرى، إن كان الهدف من هذه العملية تصحيح وضع خاطئ، وليس تلبية لرغبات وإرادة أطراف واتفاقيات بعيدة عن مصالحنا.
فهناك ضوابط وأعراف تعمل بها الدول شرقاً وغرباً في حال تشغيل العمالة الأجنبية لتحقيق هدف رئيسي، هو رعاية الاقتصاد الوطني القائم على مصالح المؤسسات الاقتصادية ذاتها، وخصوصاً في بيئة اقتصادية واسعة النشاط كإقتصاديات منطقتنا، وفي ظل نمط حياة كالتي تعيشه مجتمعاتنا.
أهم تلك الضوابط هو نظام عقود العمل الذي ينظم شروط المتعاقدين.. فإن كان نظام الكفيل يظلم العامل لكونه إجباري، ولا يوجد به خيارات، فإن عقد العمل يكفل للعامل شرط معرفة حقوقه والتزاماته، وحرية الإختيار، بالموافقة أو الرفض، على شروط العمل والانتقال إلى عمل آخر، وبهذا النظام يتحقق شرط العدالة وحفظ مصالح جميع الأطراف.
إذن، وقبل إلغاء نظام الكفيل، سيئ السمعة، الذي يحاول البعض (بعد أكثر من ثلاثة قرون) تشبيهه بسياسات الاتجار بالبشر، كان لابد من مناقشة الضوابط المطلوبة لحماية الاقتصاد البحريني من أية أضرار، و التحاور حول أسس بناء منظومة قانونية جديدة بشأن العمالة الأجنبية في ظل الظروف التي نعيشها اليوم، وليس ظروف القرن الماضي.. ملبية لمصالحنا وليس نزولاً على رغبات الآخرين.. مع مراعاة عدم تهمّش حقوق صغار التجار، لكونهم يمثلون الشريحة الأكبر في القطاع الخاص البحريني، ولما يشكّله هذا القطاع التجاري من أهمية في اقتصادياتنا كما هو في كل المجتمعات.
فشتان بين ضوابط قانونية وطنية تحمي الاقتصاد والمجتمع من آثار وسلبيات العمالة الأجنبية وبين عمليات الاتجار بالبشر ..


كلمات دالة: