القولبة بعد العولمة...

في 28 يناير 2009 عقد المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس فعالياته، في حضور أكثر من 40 رئيس دولة وحكومة، وعدد كبير من صانعي وراسمي السياسات الاقتصادية والسياسية.. والجديد في المنتدى هذا العام إنه كان قد انعقد في أوج تفاعلات الأزمة المالية والاقتصادية التي تجتاح العالم، منذ الإعلان عنها في الربع الأخير من عام 2008، والتي قال عنها رئيس المنتدى، ومؤسّسهُ، البروفسور "كلاوس شواب" في جلسة الافتتاح: "إن العالم يقف الآن في قلب أزمة بالغة التعقيد بصورة يصعب تفهمها، لأنها لا تتعلق فقط بأزمة الرهن العقاري، بل بأزمات أخرى موازية لها، وحتى لو لم تكن الأزمة المالية طفت على السطح، كنا سنجد الاقتصاد العالمي أيضاً في تراجع"..
فكان من المؤكد أن يشغل هذا الحدث العالمي إهتمام منتدى دافوس (2009)، وأن يشكّل البند الرئيسي، ولربما الوحيد، في أجندته، وهذا ما انعكس على شعار المنتدى: "قولبة عالم ما بعد الأزمة"، (Shaping the Post-Crisis World)، في إشارة واضحة إلى التغيير الذي سيجتاح العالم على مستوى التشريعات والسياسات المالية، وبدء عصر إقتصادي مختلف تماماً، يشار إليه بـ"عالم ما بعد الأزمة"..

وهذا يذكرنا بأحداث تفجير البرجين في نيويورك، وما لحقها من عمليات "قولبة عالم ما بعد ١١ سبتمبر" حول محور "الحرب على الإرهاب".
بعد 11 سبتمبر 2001، وفي ظرف أيام، فُرضت على العالم منظومة من التشريعات والسياسات غير المسبوقة، ولكنها محبوكة بدقة لا يمكن النفاذ منها.. وبدعاوى العولمة التي "جعلت العالم قرية كونية صغيرة"، وبذرائع "افتقار المنطقة العربية للديمقراطية وعلاقته بظهور وانتشار الإرهاب"، الذي وصلت آثاره المدمرة إلى رمز القوة الأمريكية في نيويورك، فوجئ العالم بمنظومة مبادئ وسياسات الحروب الاستباقية والوقائية، والحرب على الارهاب.. استُخدمت الاولى في الغزو والاحتلال الانجلو-أمريكي لأفغانستان والعراق، والاستيلاء على كل ما يتمثل فيهما من موارد وثروات اقتصادية ونفوذ جيوسياسي بالغ الأهمية في استراتيجيات فرض هيمنة نظام القطب الواحد على العالم.. وفرضت الثانية على كل دول العالم، لتُستخدم بامتياز في حماية وتنظيم شئون الاحتلالات ومواجهة أية مقاومة ضدها، بما يحقق استمرار ونمو المنظومة الاستعمارية الجديدة. فكانت أحداث ١١ سبتمبر هي الحلقة الأولى في مسلسل تشكيل (أو قولبة العالم) في إطار النظام الدولي الجديد ضمن صيرورة أمنية وسياسية جديدة تضمن نفوذ القطب الامريكي على العالم.
أما الأزمة المالية التي ظهرت على صفيح ساخن، بعد تصعيد غير منطقي في ارتفاع اسعار النفط، وتلاعب مفضوح في السياسات المالية للرهونات والاستثمارات العقارية، هذه الأزمة التي نشأت في وول ستريت في نيويورك أيضاً، وتلاقفتها الدول الاوروبية، كما حصل بعد ١١ سبتمبر، فقد بات واضحاً أنها سرعان ما تحولت إلى نقطة انطلاق لسن تشريعات جديدة وتغيير البنى التحتية للسياسات المالية، لتشكيل (أو قولبة) أطر النفوذ المالي في النظام العالمي الجديد بما يضمن الهيمنة الاقتصادية للقطب الأمريكي.. وبهذا ستكون منطقتنا العربية الغنية بالموارد والثروات، كما حدث بعد ١١ سبتمبر، من أهم الدول المعنية بهذه القولبة، التي تستهدف حماية مصالح الاقطاب المتنافسة على زعامة العالم، والتي يبدو أنها الحلقة الثانية في مسلسل تنظيم "عالم ما بعد الحرب الباردة"..
وإن كان جورج بوش وفريقه اليميني المتطرف، الذين بدأوا فترتهم في الادارة الامريكية بأحداث ١١ سبتمبر، قد أجادوا عملهم الدموي في تغيير النظام السياسي الدولي، وفرض السيطرة الأمريكية، فمن المؤكد إن الانتقال إلى المرحلة الثانية التي تستهدف تغيير النظام المالي والاقتصادي الدولي، كانت بحاجة لرئيس وإدارة إمريكية جديدان في البيت الأبيض، ولأزمة ثانية تناسب المرحلة التي من اهم اهدافها مسح الصورة الاجرامية البشعة للولايات المتحدة من ذاكرة العالم، لتيسير مهمة التغييرات الاقتصادية في "عالم ما بعد الأزمة"، والتي لن تكون أقل شأناً من التغييرات السياسية في "عالم ما بعد ١١ سبتمبر"..
ولأن الأمريكان من انجح الناس في صناعة الاعلام والعلاقات العامة، وفي عمليات شيطنة أو تلميع الأنظمة والشخصيات، لذلك كان أدائهم فوق التوقع.. فجاء إلى البيت الأبيض رئيس أمريكي بمواصفات نادراً ما تجتمع في شخص واحد، والأهم إنها مواصفات شرقية آكثر منها غربية.. وأقرب مايكون للمنطقة العربية في لون البشرة، والعلاقة الدينية، والخطاب الثقافي، والمعرفة بالتراث ومواقع التأثير من خلالها..
فمن كان يتوقع ان يعيش عصر رئيس أمريكي أسمر، يحمل اسماً عربياً ذو دلالات إسلامية، ويتحدث في التاريخ والشعر العربي، وينحني لخادم الحرمين الشريفين في أول لقاء معه، كما فعل باراك حسين اوباما..
ونتوقف هنا على أمل أن يكون القارئ قد توصل للاستنتاج المطلوب..
ونختتم بالقول المعهود "لا تتفاءلوا" بالرئيس الأمريكي الجديد، فهو صناعة أمريكية لا يختلف عن الآخرين سوى في لون البشرة وما تم تلقينه من ثقافة شرقية للاستهلاك في كسب العقول والقلوب والوصول إلى الهدف المنشود..
فكما كان دخولنا إلى عالم جورج بوش عبر بوابة أحداث ١١ سبتمبر.. كذلك كان دخولنا إلى عالم باراك حسين عبر بوابة الأزمة المالية..
وإن كان ما مر على المنطقة، خلال السنوات القليلة الماضية، يُدعى في القاموس الأمريكي "عملية مخاض الشرق الاوسط الجديد"، فياترى ما هو عنوان المرحلة الراهنة.. وقد نكون سباقين إن وضعنا لها عنوان "الولادة القيصرية لاقتصاديات الشرق الاوسط الجديد"، وهي مرحلة لن تكون أقل شأناً من الحروب التي فرضها علينا، غير المأسوف عليه، جورج بوش.


كلمات دالة: