دولة المؤسسات والقانون، أم الفوضى ..

يجب الاعتراف بأن الأحداث التي تمر بها البحرين لا تمت بصلة للملفات الإنسانية المرفوعة أو لقضايا خلافية بين السلطة والمعارضة، بقدر ما هي جزء من اللعبة الدولية والإقليمية التي تمر بها المنطقة العربية عموماً، والخليجية خصوصاً.. ولربما الأحداث الحالية تكشف لنا حقيقة الأحداث السابقة (التسعينيات)، التي كانت، بعد إنهاء دور العراق (حرب ۱۹۹۱)، مؤشراً على رص اللبنات الأولى في المشروع الاستعماري الجديد مع بدء مرحلة التغییر في النظام الدولي.. فالأحداث التي تمر بها مملكتنا الجميلة (التي تحاول أيادي الغدر تشويهها)، هي أولاً: جزء من أحداث المنطقة، وهي ثانياً: مرحلة متقدمة في ذات المشروع الذي بدأ في تسعينيات القرن الماضي، من خلال الصناعة الطائفية التي يتمحور حولها المشروع الاستعماري في بلداننا.. وهي ثالثاً: جزء من استراتيجية وأحداث لن تنتهي بانتهاء أو بتحقيق "المطالب" الحالية، كما لم تتوقف بعد المصالحة في نهاية المرحلة السابقة.


هو ذات المشهد التسعيني، تعيشه البحرين مرة أخرى، تحت شعار "العنف مقابل الحوار".. المرحلة الأولى انتهت بالحوار بين جميع الأطراف، والاتفاق حول المبادرة الإصلاحية، وتحقيق المطالب، وبدء عملية التحول الديمقراطي، وبناء دولة المؤسسات والقانون، الذي مازال مستمراً من دون توقف منذ ذلك التاريخ، ولا ينكر ذلك إلا من يبيت للبحرين حقداً، وشراً..
إن الأسلوب الذي تم اتباعه بالتدرج في رفع وتيرة الخلاف، وتصعيد العنف، في الشارع البحريني، منذ بداية العملية الإصلاحية، يشير بوضوح إلى أن الخلاف والعنف كانا وسيبقيان الوسيلة التي سيعتمد عليها تیار سياسي معين بشكل مستمر للوصول إلى أعلى سقف من الأهداف غیر المشروعة، والتي يمكن قراءتها فيما بين سطور المنشورات والكتابات التي ما فتئت تطالب بـ"الحوار مقابل العنف".
والغريب في كل ما قيل وكُتِبَ، من على المنابر الدينية والسياسية والإعلامية، في طلب "الحوار وإلا العنف"، منذ بدء الفصل التشريعي الثاني الذي شاركت فيه المعارضة (2006)، في كل ما قيل وكتِب لم يأت أحدهم على ذكر أهم بندين يجب توضيحهما عند المطالبة بأي حوار، الأول: يا ترى من هي الأطراف المطلوب جلوسها حول طاولة الحوار؟! إذ مع انفتاح وعلنية العمل السياسي، ووجود ممثلي الشعب تحت قبة البرلمان، ووجود المحكمة الدستورية، وفصل السلطات، وانتشار المعارضة (وأحزابها) في طول وعرض البلاد ومؤسساتها، وقيام أكبر عدد من مؤسسات المجتمع المدني على مساحة البحرين الصغيرة، وانفتاح الإعلام وحرية التعبير عن الرأي، يا ترى ما المطلوب أكثر من هذه القنوات، التي تشكل أسس وأطراف الحوار في دولة المؤسسات والقانون، لكي تتمكن المعارضة من التواصل عبرها لتحقيق مصالح الشعب (إن كان هذا هو أجندتها الحقيقية)..
وهذا يوصلنا للبند الثاني، وهو، يا ترى ما هي أجندة هذا الحوار (المزعوم)؟!.. ففي ظل وجود كل الآليات التنفيذية التي لا تألو جهداً في حل الصعوبات التي نواجهها كأي مجتمع أخر، مثل البطالة، والإسكان، والتعليم، والفساد الإداري والمالي، والمستمرة في تنفيذ أكبر المشاريع التنموية وأكبر عملية تطوير وبناء للبنية التحتية على كل مساحة البلاد، وفي ظل الرقابة المستمرة من قبل البرلمان والإعلام ومؤسسات المجتمع المدني على السلطة التنفيذية، يا ترى ما هي هذه الأجندة الكبرى التي تُحتم تجاوز كل مؤسسات الدولة والقانون، والجلوس على طاولة حوار لم تحدد أطرافها وأجندتها؟!.. من هذا نستخلص أن هناك أجندة غير مشروعة يُراد تحقيقها من خلال الضغط على القيادة السياسية بالعنف المتصاعد، والذي لم يتردد بعضهم من التهديد بأنه سيأكل الأخضر واليابس.
إذن ففي ظل غياب الطرح العلني لهذين البندين بكل شفافية، وفي ظل التلاعب الإعلامي الفاضح حول المطالبة بالحوار لحل ملفات مفتعلة مقابل العنف، يبدو أن أجندة هذا الحوار المزعوم لا علاقة لها بمصالح الشعب .. وما هذا الشعب المسكين إلا أداة تستخدم لتحقيق أجندات غريبة عنه.
ولربما نكون سابقين للأحداث ونحن نؤكد أن الملفات المرفوعة من قبل أطراف ما فتئت تعمل على زعزعة الأمن في البحرين، ما هي إلا واجهة وذريعة للوصول لأجندة خطيرة، ومهددة لوحدة ومصالح البحرين وشعبها، تماماً كما لم يحقق التغيير في العراق سوى الدمار التام للدولة وتشريد وقتل الملايين من الشعب العراقي، من خلال الملفات "الإنسانية" التي رفعتها تلك المجموعة التي تجلس على سدة الحكم في أرض السواد اليوم...
وفي هذا الوارد، فإننا نؤكد أن التعتيم الإعلامي على الوضع العراقي الذي بات من أكثر دول العالم الثالث تخلفاً، وحال الشعب العراقي الذي بات أكثر شعوب العالم فقراً، في ظل حكم طائفي، مدعوم بقوة المحتل وقوة الميليشيات والمعونات الخارجية، إن التعتيم الإعلامي على حقيقة ما يجري في العراق منذ ست سنوات، هو ما يحقق نجاحاً للقوى الطائفية التي تحاول التلاعب بالقضايا الإنسانية لتحقيق مصالحها غير المشروعة في بلداننا العربية، بدعوی نجاح الـ "تحرير" في التغيير في العراق..
فهل نأخذ هذا الدرس، في دعم سياسة إعلامية سليمة، تحقق مصالحنا، وتكشف عن حقائق نحن بأمس الحاجة إليها اليوم لتوعية شعوبنا بما يحاك لها في الدهاليز المعتمة..؟
وأخيراً، يجب التأكيد على أنه بمقدار أهمية وضرورة استمرار الحوار الوطني بين كل فئات المجتمع، وبينه وبين قيادته السياسية، إلا أن تجاوز مؤسسات الدولة، وسلطة القانون، في أي حوار، لن يجلب إلى مجتمعنا سوى الفوضى، التي ستفرضها تدريجياً، مليشيات العنف، كما في الحالة العراقية.