التعددية وحلول القضايا الساخنة - منتدى أمن الشرق الأوسط: الفرص والتحديات - معهد الصين للدراسات الدولية - بكين - الصين - 27-28 نوفمبر 2019

تعيش منطقتنا العربية حالة ساخنة من الحروب والصراعات المستمرة منذ بداية هذا القرن، هي نسخة جديدة من الحروب تختلف عن القديمة... حروب تم صناعة أسبابها وأهدافها ونتائجها في خارج المنطقة، إذ أن لا مصلحة لشعوب وحكومات المنطقة بها، بل هي تصنع مجموعة من المصالح لأقطاب دولية عبر الغزو والاحتلال والقتل والتدمير والتشريد والابتزاز، والارهاب. إن حروب المنطقة العربية اليوم تختلف عن حروب القرن العشرين، بأدواتها، ولكنها لا تختلف في أبعادها السياسية والاقتصادية والثقافية...

فالمنظور الاستعماري الغربي الذي كان سبب الحربين العالميتين، وقسم أرض العرب بمشروع سايكس بيكو، وشكّل النظام الدولي في بداية القرن الماضي، لازال سبباً هو منظور صراعات وحروب هذا القرن، ولكن بأدوات جديدة.
مع بداية القرن الواحد والعشرين، دخلت منطقتنا العربية في حروب جديدة هي من متطلبات نشوء نظام دولي جديد، ذو قطب واحد، بعد سقوط القديم، ... حروب تم فرضها على منطقتنا بحكم القوة، ويغيب عنها منطق العقل والأخلاق والإنصاف والعدالة.
حروب استباقية، ووقائية، وحروب بالوكالة وحروب لامتماثلة، والحرب على الإرهاب، كلها مسميات تم تشريعها لتبرير انتشار القوى الغربية في العالم، والتدخل بالقوة في إدارة الصراع حول تشكيل النظام الدولي الجديد الذي لازال غير واضحاً.
حروب تجهل الشعوب أسبابها وأهدافها، وتعيش كل مآسيها...
حروب تنشر الارهاب والدمار والقتل والفقر والفوضى، وتنتهك أبسط حقوق الشعوب العربية، في ظل تعتيم اعلامي يخفي صورة البشاعة التي تعيشها المنطقة عموماً، تحت شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان الكاذبة.
الحروب المفروضة على الشرق الأوسط...
ولأن انتشار الحروب والصراعات عموماً ترتكز على قواعد استراتيجية لأصحاب المصالح العظمى بشكل عام، علينا إذن أن نتحقق، ونتذكر دائماً، القاعدة التي ترتكز عليها حروب منطقة الشرق الأوسط، بما فيها منظومة الحرب على الإرهاب التي أعلن عنها البيت الأبيض مباشرة بعد تفجير البرجين في نيويورك، في 11 سبتمبر 2001، وقيل أن بن لادن ورفاقه (العرب المسلمون) خططوا له وأداروه من كهوفهم السحيقة في أفغانستان. وكان إعلان الحرب على الإرهاب حينها بداية انطلاق الحرب ضد المبادئ والأخلاق والقيم الإنسانية في عالمنا العربي، حرب قائمة على الابتزاز السياسي والاقتصادي، وغزو الدول واحتلالها، وتفتيت الدول بالحروب بين الطوائف والأديان والأعراق، لرسم خريطة جغرافية وسياسية جديدة للمنطقة تتناسب مع الطموح والحلم الأمريكي، بدءً بغزو واحتلال أفغانستان، وصولاً إلى احتلال العراق، لتمتد حروب الإرهاب بكل مسمياتها في كل المنطقة العربية التي تعيش أسوأ فتراتها تاريخياً.
ومن هناك بدأ مسلسل انتهاك أمن المنطقة، عند غزو العراق واحتلاله وإلغاء دوره كقوة عسكرية وثقافية واقتصادية وحضارية تشكل حجر الأساس في توازن معادلة الأمن الإقليمي بكل أبعاده... من هناك بدأت اللعبة الدولية، أو المشروع الجيواستراتيجي الأمريكي الجديد في المنطقة، والذي أعلن عنه كولن بأول، وزير الدفاع الأمريكي الأسبق، أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في مارس 2003، بالتحديد قبل يومين من إطلاق جيوشه لغزو واحتلال العراق.
ومنذ ذلك اليوم والمنطقة تعيش حالة حروب لا أخلاقية ولانهائية، حروب تدور بموجب عقيدة المحارب الأمريكي، التي قال عنها روبرت فيسك بأنها عقيدة "تسمح بعدم انهاء أي صراع إلا بتدمير العدو تدميراً شاملاً. فهي لا تسمح بالهزيمة ولا تسمح لأي شخص أبداً أن يوقف القتال" (الاندبندانت، 16/9/2006)... حرب كسرت كل قواعد الحروب، التي كانت تفخر بقيم الشرف العسكري على أن "في الهزيمة، تحدي... وفي النصر، الشهامة" (ونستون تشرشل).
وبموجب هذه العقيدة الأمريكية فإن الحرب في العراق لم تبدأ لتنتهي قبل انتهاء المشروع الجيوسياسي الخطير... حرباً طويلة بدأت بمواجهة الجيشين، وتحولت بعد الاحتلال إلى الحرب بالوكالة لإنقاذ الجيوش الأمريكية من الفشل أمام المقاومة العراقية الشرسة... وهكذا تغيرت قواعد اللعبة مع إدخال إيران إلى الساحة العراقية لينشغل العراقيون بحرب قومية مذهبية عقائدية مدمرة تهدد المنطقة بأكملها، وتمهد الطريق لتحقيق المشروع.
بحسب صحيفة النيويورك تايمز الأمريكية ، (العدد الخاص 8 نوفمبر 2016) إن "العدوان والاحتلال الأمريكي لم يدمر نظام البعث العراقي فقط، بل دمّر الدولة العراقية وخلق الظروف الملائمة لولادة داعش وأمثالها من المنظمات الإرهابية، وقضى على العالم العربي وحوّله إلى منطقة ملتهبة، ومصدر لأزمة لاجئين عالمية، كما أعطى إشارة الانطلاق لعصر الإرهاب الذي يضرب العالم اليوم ويقض مضاجع البشرية" (انتهاء الاقتباس).
ومع انهاء دور العراق وسقوط التوازن الأمني الإقليمي، بدأت أدوات اللعبة تفرض نفسها لتحقيق حلم التغيير الجيوسياسي الخطير... مشروع الشرق الأوسط الجديد، للطوائف والمذاهب، لضمان استمرار الاقتتال في عموم المنطقة، وإلى أمد غير منظور.
ومن هنا تشكلت التهديدات الأمنية في المنطقة العربية كالتالي:
1- تدخلات مباشرة في الشؤون الداخلية وانتهاك سيادة دول المنطقة، سياسياً وعسكرياً، على المستوى الإقليمي والدولي، والتي تشكل خروقات وتجاوزات مباشرة للقانون وللاتفاقيات الدولية ولميثاق منظمة الأمم المتحدة.
2- انتشار الصراعات العرقية والمذهبية.
3- انتشار الإرهاب والقواعد الإرهابية متعدّدة الجنسيات.
4- انتشار الميليشيات المسلحة وخلق مناخات جاهزة للتقاتل.
5- تصاعد الضغوط الدولية السياسية والاقتصادية والحقوقية والعسكرية، غير المبررة.
6- انتشار الفوضى وعدم الاستقرار.
7- انتشار الدعوات الانفصالية لتفتيت الدولة الواحدة بتكتيكات بالتمرد والمليشيات وغيرها.
8- حرب الإعلام والإشاعات.
ولربما من أخطر نتائج هذه المرحلة، على المستوى الإقليمي والدولي، تسجيل موجات من اللاجئين والهجرة غير المسبوقة، بحيث تقدر وكالة الأمم المتحدة لشئون اللاجئين عددهم ب16.8 مليون شخص سنة 2017 (5.5 مليون شخص في سوريا لوحدها)، إضافة إلى ظهور ما يسمى ب"المناطق غير المحكومة"، كبيئة حاضنة للإرهاب، إضافة إلى أهم القضايا المتعلقة بانتهاكات السيادة الجغرافية وانتشار الفساد والفقر والبطالة، وتصاعد القلق والحذر من المستقبل.
المتغيرات الإقليمية والدولية...
الآن، بات في حكم المؤكد أن مشروع النظام الدولي ذو القطب الواحد قد سقط نهائياً، مع وصول القطب الروسي لشواطئ المتوسط السورية (2011)، وعودة روسيا للساحة الدولية كقوة عظمى لا يمكن تجاهلها.
نعتقد اليوم بأن إدارة العالم بنظام القطب الأمريكي الواحد أصبح أمرا بعيد المنال، وذلك للأسباب التالية:
1. تنامي الدور الكبير والمتزايد الذي تلعبه الصين على مستوى التجارة العالمية والسياسة الدولية، وبروزها كقوة دولية منافسة للولايات المتحدة الأمريكية أصبح أمرا واقعا، مما يجعل الطرفين أقرب إلى طاولة الحوار والتفاوض منه إلى الصدام أو الحرب.
2. فشل القوى الغربية في معالجة المسألة السورية والنجاح المعقول الذي حقّقته روسيا في مقاربتها السياسية والعسكرية للأزمة السورية، جعلت منها قطبا دوليا "يمكن الوثوق به" في حل النزاعات الدولية القائمة أساسا على احترام ميثاق الأمم المتحدة.
3. بروز قوى اقتصادية جديدة إقليمية أو دولية مثل مجموعة البريكس (BRICS) ساهمت في التذكير بأن العالم لا تحكمه فقط دول كبرى تقليدية مثل الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي، بل هنالك قوى اقتصادية صاعدة يمكن أن تلعب دورا متقدّما في المشهد الاقتصادي والسياسي العالمي.
4. التراجع الاقتصادي والمشاكل السياسية التي تمر بها أوروبا، كحليف تقليدي للولايات المتحدة الأمريكية، والتوترات المتكررة بين الإدارة الأمريكية الحالية والقيادات الأوروبية في مستوى زيادة الضرائب على المنتجات الأوروبية وزيادة مساهمتها في تمويل الناتو، وبعض المسائل الخلافية الأخرى أدّى إلى تساؤلات عديدة حول واقع الحليفين التقليديين.
5. شكّل التطور الهائل لتكنولوجيا الاتصال والمعلومات إحدى الروافد الأساسية لوعي الشعوب وتعرية الحقائق حول حقيقة وواقع العلاقات الدولية والمآسي الإنسانية التي يمر بها العالم جرّاء التدخل الخارجي في جميع المناطق وخاصة منها المنطقة العربية، ممّا يجعل الشعور بالنقمة والعداء تجاه القوى الغربية، وبالتالي تجاه نظام القطب الواحد التي تتزعمه الولايات المتحدة الأمريكية أمر مفروغ منه.
أين الأمم المتحدة..
في الجانب الآخر، في خضم هذه التهديدات الأمنية المصيرية، والفوضى العارمة والشعارات الدولية الزائفة التي يتم تسويقها في منطقة الشرق الأوسط، هناك أسئلة مهمة جداً تطرح نفسها اليوم، وهي:
• أين دور منظمة الأمم المتحدة في حماية الدول ذات السيادة التي وثّقت وصادقت على ميثاقها أملا في إنهاء الحروب والتهديدات الأمنية، لصالح الأمن والاستقرار الدولي؟...
• هل يعمل مجلس الأمن الدولي فعلا على "صون الأمن والسلم الدوليين"، أم أن لعبة المصالح واستخدام حق الفيتو تجعل منه مجرّد ناديا مغلقا لرعاية مصالح الدول الكبرى على حساب بقية دول العالم؟.
• وهل حان الوقت فعلا، بعد مضي أكثر من سبعين عاما على نشأة منظمة الأمم المتحدة، لإعادة التفكير في فلسفة وشكل وآليات عمل هذه المنظمة ومختلف أجهزتها؟.
لا نريد اليوم أن نوجه أصابع الاتهام مباشرة ضدّ منظمة الأمم المتحدة، التي قامت ولا تزال، إلى اليوم، بدور كبير في القضايا والعمليات الإنسانية، سواء كانت في وقت السلم أو في وقت الحروب والأزمات حول العالم، بقدر ما نحاول أن نقف على حقائق مُرّة مَيّزت الفترة السابقة وتُميّز الفترة الحالية لدور هذه المنظمة في المنطقة العربية خصوصاً.
أي دور جدّي لعبته منظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن بالتحديد في الوقوف أمام احتلال فلسطين وكل تبعات ذاك الاحتلال البغيض، أو أمام الاحتلال الأمريكي للعراق وما تبع ذلك من آثار مدمرة لازالت تتفاعل على أرض الواقع... أخطرها هو إعداده للتقسيم إلى دويلات طائفية وعرقية، ستكون مصدر حروب ونزاعات للعراق وللمنطقة إلى أمد غير منظور؟.
لماذا لم تفي منظمة الأمم المتحدة بوعودها في حماية الشعب الليبي عندما صادق مجلس الأمن بالإجماع على تدخل عسكري لحماية المدنيين. فما نراه اليوم هو بلد منقسم تتناحر فيه القبائل والميليشيات المسلحة والمنظمات الإرهابية، وتتكالب عليه القوى الكبرى طبقا لمصالحها، على حساب أمن واستقرار شعب ضعيف لا حول له ولا قوة؟.
لماذا عجزت منظمة الأمم المتحدة على إيجاد حلول واقعية وعادلة في سوريا، ولماذا يواصل مجلس الأمن السكوت وعدم التحرك الفعلي حول الضحايا والتشريد وتدمير البلد، أم أن لعبة مصالح الدول الكبرى هي الأهم؟.
ما هي النتائج الملموسة التي توصل إليها مبعوثو الأمم المتحدة في العراق وسوريا وليبيا واليمن بعد عشرات المئات من الرحلات والاتصالات والمفاوضات؟.
إن الوقائع تزخر اليوم، بالأمثلة التي تعبّر عن عجز المنظمة الأممية وكل مجالسها ولجانها، في القدرة على حل الأزمات الدولية وحماية مصالح الدول الصغيرة وضمان أمن واستقرار شعوبها.
ومهما تعدّدت الأسباب والمسببات، فإن الأمم المتحدة بقيت رهينة نظام دولي يحمي مصالح الدول الكبرى ولا يكترث لمآل الدول الضعيفة. وعلى هذا الأساس فإن مسألة تطوير فلسفة وشكل وآليات وميثاق الأمم المتحدة باتت مسألة عاجلة لا تتحمل مزيد من التأخير. وربّما يكون التفكير في إرساء نظام عالمي جديد متعدّد الأقطاب، يأخذ بعين الاعتبار مبادئ العدالة والشراكة والاحترام المتبادل بين الدول، هو بداية الحل.
إن ما ينقصنا اليوم هي إرادة دولية حقيقية تتبنى نظام دولي جديد يحمي الدول والشعوب الصغيرة ويضمن حقّها في الأمن والاستقرار والتطور الاقتصادي والتكنولوجي. ويعترف بمشروعيتها في الدفاع عن مصالحها أمام ماكينات ومصالح الدول الكبرى.
كما أن رفض فكرة الاحتلال واستخدام قوة السلاح أو الخداع أو التعنت في إدارة الشأن الدولي أصبح أمرا لا مفر منه، ليحل محلها قيم التعاون والتشارك والإنصاف والاحترام المتبادل بين الدول على المستويين الإقليمي والدولي.
وبذلك نخلص إلى القول بأن العالم متّجه لا محالة نحو نظام عالمي جديد متعدّد الأقطاب، لا شك في أن الولايات المتحدة سوف تلعب فيه دورا محوريا، لكن عليها أن تتقاسم هذا الدور مع لاعبين جدد مثل الصين وروسيا والهند... وعليهم جميعاً أن يتعهدوا بضمان الأمن والاستقرار من خلال منظمة أممية قادرة على صون هذه القيم الإنسانية الأهم في حياة البشرية.
لا يسعني من خلال هذا المنبر، إلاّ أن أعبّر مرّة أخرى عن شكري وتقديري لمعهد الصين للدراسات الدولية على هذه الدعوة الكريمة، وأتمنى أنني قد وُفّقت في طرح بعض التساؤلات المهمة والمصيرية حول ضرورة دعم نظام دولي جديد متعدد الأقطاب، من شأنه أن يكون أكثر عدلا وإنصافا وإنسانية في إدارة الشأن الدولي.

  • منتدى أمن الشرق الأوسط: الفرص والتحديات - معهد الصين للدراسات الدولية- بكين، جمهورية الصين الشعبية - 27-28 نوفمبر 2019

    منتدى أمن الشرق الأوسط: الفرص والتحديات - معهد الصين للدراسات الدولية- بكين، جمهورية الصين الشعبية - 27-28 نوفمبر 2019

  • منتدى أمن الشرق الأوسط: الفرص والتحديات - معهد الصين للدراسات الدولية- بكين، جمهورية الصين الشعبية - 27-28 نوفمبر 2019

    منتدى أمن الشرق الأوسط: الفرص والتحديات - معهد الصين للدراسات الدولية- بكين، جمهورية الصين الشعبية - 27-28 نوفمبر 2019

  • منتدى أمن الشرق الأوسط: الفرص والتحديات - معهد الصين للدراسات الدولية- بكين، جمهورية الصين الشعبية - 27-28 نوفمبر 2019

    منتدى أمن الشرق الأوسط: الفرص والتحديات - معهد الصين للدراسات الدولية- بكين، جمهورية الصين الشعبية - 27-28 نوفمبر 2019

  • منتدى أمن الشرق الأوسط: الفرص والتحديات - معهد الصين للدراسات الدولية- بكين، جمهورية الصين الشعبية - 27-28 نوفمبر 2019

    منتدى أمن الشرق الأوسط: الفرص والتحديات - معهد الصين للدراسات الدولية- بكين، جمهورية الصين الشعبية - 27-28 نوفمبر 2019