أزمة عدم الثقة العالمية: مواجهة الشكوك والتخريب - معهد أمادوس - طنجة - المغرب - 13-16 نوفمبر 2019

المداخلة الأولى- المحور الأول: الصين، أوروبا، الخليج، تركيا، روسيا والولايات المتحدة الأمريكية: نحو اضطراب عالمي جديد

يعتبر موضوع الصراع أو التنافس بين أقطاب وكتل إقليمية ودولية على الشكل المستقبلي الذي سيتّخذه النظام العالمي الجديد هو أساس مشكل الاضطراب الحالي الحاصل على المستوى الدولي وما يتضمنه من تباينات في المواقف السياسية والسياسات الاقتصادية وبالتالي التباعد في مستوى المصالح لكل طرف.

وبالرغم من أن عنوان هذا المحور يحدّد هذه الأطراف المتنازعة في كل من الصين، أوروبا، دول الخليج العربي، تركيا، روسيا والولايات المتحدّة الأمريكية، إلاّ أننا نعتقد بأن قائمة الأطراف المتداخلة في هذا الصراع الدولي تمتد إلى أطراف أخرى فاعلة لا تقل أهمية عن الأطراف المذكورة وهي: الهند والبرازيل وجنوب إفريقيا وما تمثله من وزن ضمن مجموعة البريكس، وكذلك المكسيك واليابان.
سوف نحاول من خلال النقاط التالية تحليل أسباب وتداعيات هذا الاضطراب العالمي الجديد وعلاقته بالصراع حول تشكيل مشروع النظام العالمي الجديد.
1. تميّز العالم في الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية بتشكيل نظام عالمي ذو القطبين (المعسكرين الشرقي والغربي)، وكان على دول العالم آنذاك أن تختار بين التوجه الشيوعي المدعوم من الاتحاد السوفياتي أو التوجه الرأسمالي المدعوم أساسا من الولايات المتحدة الأمريكية. كما شهدت هذه الفترة محاولات إقليمية محتشمة لنأي بعض الدول بنفسها عن الصراعات الشرقية-الغربية (مثال: مجموعة دول عدم الانحياز)، ولكنها سرعان ما اختفت نتيجة احتداد هذا الصراع الشرقي-الغربي، بالإضافة إلى أن تلك المحاولات لم تُبنى على أسس وخيارات سياسية واقتصادية جدّية مدروسة تمثل بديلا للنموذجين (الشيوعي والرأسمالي).
2. طيلة فترة الحرب الباردة، عملت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها على استبعاد أي طرف لا ينسجم مع مشروعها الرأسمالي وسياستها الأحادية لقيادة العالم. وكذلك حاول الاتحاد السوفياتي سابقا التأثير بأفكاره الشيوعية على عدد من البلدان حول العالم، وذلك في إطار صراع جيوسياسي عالمي، يتخلّله سباق تاريخي لصنع وامتلاك الأسلحة غير التقليدية (أساسا السلاح النووي).
3. نجحت الولايات المتحدة الأمريكية، بعد انهيار جدار برلين سنة 1989، وبالتعاون مع حلفائها الغربيين وغير الغربيين في تفكيك الاتحاد السوفياتي والتخلص تدريجيا من الفكر الشيوعي في معظم دول العالم، والتحكم في مفاصل الاقتصاد العالمي والسيطرة على التكنولوجيا الحديثة. لتتربع في النهاية على عرش العالم اقتصاديا وسياسيا وعسكريا.
4. كان نجاح الولايات المتحدة الأمريكية في التربع على عرش العالم باهض الثمن للمجتمع الدولي بأسره، فقد تكبد العالم حروبا وأزمات واضطرابات عديدة لم تكن، في الواقع، سوى مشاريع إقليمية ودولية بهدف السيطرة على العالم. ولن ندخل هنا في تفاصيل الأمور، بل نذكّر فقط بأن الحرب ضد أفغانستان في السبعينيات والثمانينيات كانت أيديولوجية بالدرجة الأولى، وأن الحرب على العراق سنة 2003 لم تُبنى على الشرعية الدولية، وأن حرب البلقان وتقسيم يوغسلافيا السابقة تشوبها العديد من نقاط الغموض حول الأهداف والتداعيات، وكذلك التدخلات المتكررة في دول أمريكا الجنوبية لم تكن مدعومة دوليا ولا نابعة من إرادة شعبية لتلك الدول.
5. يمكن الاستنتاج من النقاط السابقة أن الولايات المتحدة الأمريكية لا تقبل بمنطق أو بفكرة أن يشاركها أحد في قيادة العالم أو المس من النظام الاقتصادي الرأسمالي. ولن تتردّد في خلق اضطرابات أو حروب بصورة مباشرة أو بالوكالة لتحقيق هذا الهدف.
6. مع بداية الألفية الجديدة، تطورت الأوضاع العالمية الاقتصادية والجيوسياسية بما لا تشتهيها الولايات المتحدة وحلفائها، بحيث تمكّنت روسيا الاتحادية، وريثة الاتحاد السوفياتي، من التعافي التدريجي اقتصاديا، ومن الرجوع بقوة على الصعيد الدولي عبر مواقفها الرافضة لانتهاك الشرعية الدولية، وتطوير ترسانتها من الأسلحة المتطورة حماية لمصالحها، وأكبر دليل على ذلك قطع الطريق أمام القوى الغربية من التدخل المباشر في سوريا. وجاءت المفاجأة الأكبر من الصين التي تمكّنت في فترة وجيزة من تطوير اقتصادها والتحول إلى "مصنع العالم"، الذي بات يهدّد بشكل مباشر المصالح الاقتصادية الأمريكية والغربية بشكل عام.
7. في نفس الفترة شهد العالم بعض المشاكل والتقلبات الاقتصادية، وكان على قاب قوسين من أزمة اقتصادية عالمية سنة 2008 بسبب ما سمي في الغرب ب"الانكماش الاقتصادي" الذي امتد إلى سنة 2012 ومازالت بعض البلدان الغربية تشكو من تداعياته. كما أن العديد من الأصوات المدافعة على النظام الرأسمالي أصبحت ناقدة له. ولم تسلم من هذا الانكماش الاقتصادي سوى بعض البلدان الكبرى مثل الصين والهند والبرازيل.
8. سارعت بعض البلدان إلى حماية مصالحها الاقتصادية والسياسية أمام تمسّك الولايات المتحدة الأمريكية في قيادة العالم على طريقتها، وأنشأت الصين بالتعاون مع روسيا والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا، تكتلا اقتصاديا جديدا يعرف بمجموعة "البريكس" التي تسعى إلى مقاومة السيطرة الأمريكية وحلفائها على قيادة العالم من خلال نظام القطب الواحد. ومحاولة إرساء مفهوم جديد لقيادة العالم من خلال مبدأ العالم متعدّد الأقطاب.
9. هذا التوجه الجديد الذي ينادي بوضع أسس جديدة لقيادة العالم على أساس نظام عالمي متعدّد الأقطاب، هو في الواقع، أساس الاضطراب الجديد الحاصل حول العالم والذي من خلاله تُخلق الأزمات وتُصنع الحروب بمختلف أشكالها وتستمر الاضطرابات لحين يتشكّل هذا النظام العالمي الجديد.
10. في خضم هذه الصراعات، وجدت المنطقة العربية نفسها، وخاصة منطقة الخليج العربي، بين رحى هذه التناقضات والتجاذبات الدولية. وهي تحاول إدارة تحالفاتها والدفاع على مصالحها الاقتصادية والسياسية كمن يمشي على طريق مليء بالشوك، لأن الرهان كبيرا والتحديات أكبر والقرار أصعب في ظل غياب فكر استراتيجي سليم يراعي المصلحة الوطنية ويستطيع إدارة التجاذبات والضغوطات الدولية.

المداخلة الثانية- المحور الثاني: العالم الإسلامي - الانكسار الدائم

يُسلّط موضوع هذا المحور الضوء على حالة الانقسام التي يعيشها العالم الإسلامي منذ عقود. وإذا قلنا منذ قرون، فإنه من واقعية وموضوعية الطرح أن نعترف بأن هذا الموضوع قديم جدّا ومٌعقّد جدّا، ويحتاج منا تحليلا نقديا نحاول إيجازه من خلال النقاط التالية.
1. هل يعتبر العالم الإسلامي وحدة متكاملة من المناطق والشعوب تشترك في الأرض والفكر والسياسة والاستراتيجية والمشاريع؟ هل يعتبر العالم الإسلامي قوة إقليمية موحّدة ومتماسكة لها مواقف وسياسات مشتركة تستطيع من خلالها مجابهة التحديات الجيوسياسية والجيواستراتيجية والمشاريع السياسية الإقليمية وإدارة التناقضات الدولية في مستوى المصالح السياسية والاقتصادية.
لا نعتقد ذلك بشدّة، لأن العالم الإسلامي على أرض الواقع، هو عبارة عن عقيدة إسلامية تمّ تبنيها من قبل مجموعات عربية وغير عربية تعتنق الدين الإسلامي وتنتشر في معظم دول العالم بدون أن يجمع بينها رابط فكري موحد أو أهداف مشتركة واضحة ودقيقة.
2. العالم الإسلامي هو عبارة عن كارتال لدول تعتنق شعوبها الدين الإسلامي، ولكنها متباعدة عن بعضها البعض جغرافيا، ومتنافرة عن بعضها البعض مذهبيا، ممّا يجعل الحديث عن وحدة للعالم الإسلامي، أمرا خاطئا وغير دقيق، بالرغم من تردّد مثل هذه المصطلحات في وسائل الإعلام والتصريحات السياسية والدبلوماسية. فنذكر على سبيل المثال أن أكبر دولة إسلامية من حيث عدد السكان هي إندونيسيا (حوالي 270 مليون نسمة)، ولكنني لست متأكدة من أن باقي الشعوب الإسلامية حول العالم تشترك معها في مشاريع أو أفكار أو استراتيجيات موحدّة.
3. إذا تأملنا في وضع الإسلام عند الإيرانيين، فإننا نجد إسلاما مذهبيا (المذهب الشيعي) وليس الإسلام في مفهومه الأصلي أو العام. وأي مسلم في إيران يخرج عن هذا الإطار العقائدي، فلن يكون له مجال للنجاح أو حتى العيش بحرية.
4. أما وضع الإسلام في تركيا، فهو ليس مذهبيا كجارتها، وهو شيء جيّد، لكنه إسلام سياسي. وهو أمر أخطر لأن توظيف الدين في السياسة يعتبر من أكبر معضلات تطور البلدان العربية والإسلامية. وإذا اختلط الدين بالسياسة، فإن الرؤى تتغير والمصالح تختلف. ويصبح الإسلام، كدين، عنصر اختلاف وانقسام، وليس عنصر تقريب وتعاون كما من المفترض أن يكون.
5. تحاول منظمة التعاون الإسلامي التي تضم في عضويتها معظم الدول العربية والإسلامية، العمل على تقريب وجهات النظر والدفع نحو التعاون من أجل الخروج بمواقف إقليمية موحدّة تخدم العالم الإسلامي، في ظل التحديات الجيوسياسية الإقليمية والدولية، لكنه ومع الأسف تبقى المواقف متضاربة والنتائج غير مشجّعة بسبب الاختلافات في الرؤى ووجهات النظر وتضارب المصالح لكل دولة أو مجموعة من الدول الأعضاء في المنظمة.
6. تعتبر الاختلافات المذهبية ضمن الدين الإسلامي، والموجودة في معظم الدول العربية والإسلامية، السلاح السحري الذي منّ به الله على الغرب ليضرب به العالم الإسلامي من الداخل من خلال خلق الانقسامات بين الشعب الواحد أو الشعوب المتجانسة، وتعميق جروحه والزيادة في تخلّفه ومنعه من النمو والتطور الثقافي والاقتصادي وجعله في صراع داخلي دائم يقوم على تذكية الاختلافات والصراعات المذهبية، محقّقا في ذلك سيطرة شبه تامة على حكومات وشعوب العالم الإسلامي.
7. يعيش العالم الإسلامي منذ قرون على تذكية الصراعات المذهبية، فما أسّس له الصفويون في القرن الرابع والخامس عشر ميلادي من دولة دينية مذهبية مبنية على المذهب الشيعي الإثني عشري، هو في الواقع امتداد ونتاج لما نعيشه اليوم من نزاعات وصراعات مبنية على الاختلافات المذهبية نفسها، خاصة في منطقة الخليج العربي.
8. هذا الانقسام العربي الإسلامي داخل الدولة الواحدة أو بين الدول فيما بينها، أصبح هو الخطر الفعلي الذي يعصف بالدول ويسيء للإسلام كدين حنيف. ومع الأسف الشديد عندما تعصف الأزمات المذهبية العميقة بشعوب بلداننا (أحداث ما سمي بالربيع العربي)، يتحول الأمر إلى حرب داخلية يقاطع فيه الأخ أخيه، والابن أبيه والزوج زوجته. وتقسّم الأراضي داخل الدولة الواحدة إلى مناطق نفوذ على أساس المذهب، وبالتالي تتشتت الوحدة الوطنية وتتباعد الأهداف المشتركة داخل البلد الواحد. وتصبح الدولة لقمة سائغة للأطماع الخارجية التي سوف تجد هذه البلدان على طبق من ذهب لتملي عليها ما تريد وتصنع فيها ما تشاء.
9. إذا ما هي بوادر الحلول؟ هل نبقى مكتوفي الأيدي ونقبل مصيرنا المجهول أم أننا نحاول الخروج مه هذه الورطة المشؤومة التي سُلّطت علينا برضانا أو بدون رضانا؟
10. غبي اليوم من يعتقد بأن القوى الغربية والاستعمارية سابقا، تريد الخير لمنطقتنا العربية أو لعالمنا الإسلامي، من خلال ما تقدّمه لنا من حلول ومشاورات ونصائح لمشاكلنا الداخلية. إذ يصعب على صاحب المصلحة أن يُصلح ما خطّط له من مصلحة.
11. في رأيي، يحتاج عالمنا الإسلامي إلى التعافي من الداخل، ولا مجال لتعافٍ يأتي من الخارج في إطار صفقات أو ضمن أجندات سياسية ومصلحية معيّنة. ربّما يكون التركيز على الدين كعقيدة وفكر، وليس كسياسة، من شأنه أن يقرّب شعوب المنطقة. كما يجب تغليب المصلحة الوطنية والقومية، ورفض الحسابات الضيّقة المبنية على الاختلافات المذهبية.
12. وأخيرا، يجب أن ننتبه أن سياسة "فَرّقْ تَسُد"، لم تفارق مجتمعاتنا حتّى منذ فترة ما قبل الاستعمار. بل أُستخدمت بشكل مستمر وبالخصوص بعد خروج المستعمر في إدارة بلداننا سواء بتذكية داخلية أو خارجية. وقبولنا أو عدم وعيينا بهذه السياسة، عمّق من جروحنا، وجعلنا مستمرين في وهننا، بل عاجزين عن إيجاد طريق خلاصنا من جديد.

  • أزمة عدم الثقة العالمية: مواجهة الشكوك والتخريب - معهد أمادوس - طنجة - المغرب - 13-16 نوفمبر 2019

    أزمة عدم الثقة العالمية: مواجهة الشكوك والتخريب - معهد أمادوس - طنجة - المغرب - 13-16 نوفمبر 2019

  • أزمة عدم الثقة العالمية: مواجهة الشكوك والتخريب - معهد أمادوس - طنجة - المغرب - 13-16 نوفمبر 2019

    أزمة عدم الثقة العالمية: مواجهة الشكوك والتخريب - معهد أمادوس - طنجة - المغرب - 13-16 نوفمبر 2019

  • أزمة عدم الثقة العالمية: مواجهة الشكوك والتخريب - معهد أمادوس - طنجة - المغرب - 13-16 نوفمبر 2019

    أزمة عدم الثقة العالمية: مواجهة الشكوك والتخريب - معهد أمادوس - طنجة - المغرب - 13-16 نوفمبر 2019

  • أزمة عدم الثقة العالمية: مواجهة الشكوك والتخريب - معهد أمادوس - طنجة - المغرب - 13-16 نوفمبر 2019

    أزمة عدم الثقة العالمية: مواجهة الشكوك والتخريب - معهد أمادوس - طنجة - المغرب - 13-16 نوفمبر 2019