الخليج العربي والتحديات الاقتصادية الجديدة- المنتدى الدولي الخامس بالداخلة - المغرب 7-8 ديسمبر 2017

سوف أحاول من خلال هذه المداخلة تسليط الضوء على التحديات الاقتصادية الجديدة التي تواجهها منطقة الخليج العربي في ظل بوادر نظام عالمي جديد، وانتشار الإرهاب وتدهور أسعار النفط. تميزت اقتصاديات دول الخليج العربي خلال القرن العشرين بالنمو المتواتر والمتسارع الذي لم يتم في الحقيقة قياسه بصورة واضحة. وقد تحولت منطقة الخليج العربي، وبالتحديد دول مجلس التعاون الخليجي في فترة وجيزة إلى أسواق استهلاكية ناشئة مهمة جدّا من الناحية الاستراتيجية بالنسبة لعدد كبير من الدول وخاصة منها الدول الصناعية.

كما أن دول مجلس التعاون الخليجي تحوّلت كذلك في فترة وجيزة إلى دول ثرية نسبيا يعم فيها الرخاء والرفاهية الاجتماعية. وفي أقل من قرن تم تنفيذ مشاريع كبرى تهم البنية التحتية والاقتصادية، وخطت هذه الدول خطوات كبيرة في رفع مستوى التعليم والصحة، بالتوازي مع نهضة عمرانية لم يسبق لها مثيل في تاريخ منطقة الخليج العربي.
لكن ما يمكن تأكيده في هذا الإطار، أن هذا التطور الاقتصادي والتنمية السكانية والنهضة العمرانية غير المسبوقة لم يتم على أساس مصادر دخل متنوعة، بل بقي ولا يزال اعتماد الاقتصاد الوطني على مصدر دخل يكاد يكون وحيدا هو النفط والغاز.
وبقدر ما كانت منابع النفط والغاز طيلة عقود، المصدر الأساسي لنهضة اقتصاديات دول الخليج العربية، بقدر ما كانت هذه المنابع محور الرهانات الجيوسياسة للغرب في المنطقة، الذي سعى إلى السيطرة على منابع النفط والغاز ضمن أشكال تعاون مختلفة (تحالفات سياسية، حماية عسكرية، اتفاقيات تجارية)، وجعلها بقدر الإمكان بعيدة عن متناول المعسكر الشرقي بمفهوم نظام القطبين الذي كان سائدا إلى حدود تسعينيات القرن الماضي.
وكنتيجة لهذه المعطيات، كان طبيعيا أن يكون كل أنواع التحديث والتطوير الذي تزامن مع الرخاء الاقتصادي في المنطقة، في الواقع من مظاهر ومتطلبات الحرب الباردة.
وأكبر مثال على ذلك أن بعض العواصم والمدن الخليجية هي في الواقع نسخ من بعض العواصم والمدن الغربية بمبانيها الشاهقة وطرقها السريعة ومراكزها التجارية الكبرى وأنماط الاستهلاك الرأسمالي. وذلك بالرغم من نجاحها النسبي في المحافظة على التقاليد المحلية والخصائص الثقافية الخليجية التي تعدّت وطأة واستبداد العولمة الاقتصادية والثقافية.
ومهما يكن من أمر، فإن النصف الثاني من القرن العشرين، جعل اقتصاديات دول الخليج العربي المعتمدة على صناعة النفط والغاز، من أهم وأكثر الاقتصاديات نموا في العالم. كما تمكنت معظم الدول الخليجية من إنشاء صناديق سيادية، هي الأهم في العالم، وتمثل الأذرع الاستثمارية لهذه الدول حول العالم.
إذن يمكن حصر التطور الاقتصادي والنهضة العمرانية غير المسبوقة، في منطقة الخليج العربي، في عنصرين أساسيين هما: اعتماد الدخل الوطني الخليجي على مصادر النفط والغاز، وتزامن هذا التطور مع تحالفات استراتيجية مع الغرب في فترة الحرب الباردة وبعدها.
ولكن مع بوادر ومحاولات بناء نظام دولي جديد أحادي القطب، تتزعمه الولايات المتحدة الأمريكية، التي بدأت في بداية تسعينيات القرن الماضي مع سقوط الاتحاد السوفيتي، أساسا، ثم بوادر فشل تلك المحاولات بفضل الدور الدولي المتصاعد لروسيا والصين، ظهرت تطورات سياسية وجيوسياسية جديدة نورد أهمها في التالي:
أولاّ: انتشار مظاهر الإرهاب بصورة مفاجئة في المنطقة، مما أدى إلى فوضى عارمة وزعزعة غير مسبوقة للأمن والسلم والاستقرار، وذلك ضمن نوع جديد من الحروب والصراعات على النفوذ في نظام دولي جديد.
ثانيا: الركود الاقتصادي عام 2008 والهبوط السريع والمفاجئ لأسعار النفط منذ نهاية عام 2015، الذي يعتبر الذراع القوية لاقتصاديات دول الخليج العربي والمصدر الأساسي للموازنة العامة للدولة، وما نتج عن ذلك من تراجع كبير في مصادر الدخل، والتفكير لأول مرة في تاريخ اقتصاديات هذه الدول لوضع أنظمة للضرائب ورفع أسعار بعض المواد الأولية وحتّى الأساسية، بالإضافة إلى إرساء ضريبة القيمة المضافة، التي سيتم تطبيقها في دول مجلس التعاون الخليجي بداية من عام 2018 بنسبة 5%.
ثالثاً: دخول دول المنطقة في صراعات وحروب جديدة، لم تكن متوقعة، منها الانضمام في التحالف الدولي للحرب على الإرهاب، ثم اليمن، ثم الخلافات الخليجية – الخليجية الجديدة.
رابعاً: بداية استنزاف الصناديق السيادية وتسييل الأصول الاستثمارية لدعم المشاريع التنموية المحلية وتغطية العجز في الموازنة العامة للدولة، بالإضافة إلى استعمال جزء كبير منها في مسائل الحفاظ على الأمن والاستقرار الإقليمي والمحلي.
ما يمكن تلخيصه هنا أن اقتصاديات دول الخليج العربية التي كانت تعتمد لفترات طويلة على النفط والغاز كمصدر أساسي للدخل الوطني، وكانت تعتمد على الاستثمار في محافظ استثمارية غربية فقط، أصبحت مجبرة، في ظل التغيرات الجيوسياسية، على تغيير هيكليتها والتوجه إلى التنوع في مصادر الدخل وفي المحافظ الاستثمارية.
وفي الواقع، فإن المتغيرات التي تشهدها منطقة الخليج العربي ليست في منأى عن المتغيرات الجيوسياسية والاقتصادية التي يشهدها العالم من حيث إعادة توزيع موازين القوى الدولية سياسياً واقتصادياً في تكتلات سياسية جديدة ونظام دولي اقتصادي جديد لن يكون فيهما الغرب مركزاً رئيسياً أو مركزاً أحادياً تدور دولنا في فلكه.
وتشير المؤشرات الأخيرة إلى أن النظام الاقتصادي الدولي الجديد لن يكون كما سبق، وخصوصاً بعد التعافي النسبي لروسيا سياسيا واقتصاديا وعسكريا ورجوعها القوي إلى الساحة الدولية، وخاصة دورها العسكري في الأزمة السورية، وكذلك الصعود المتواصل للصين كقوة تجارية واقتصادية أولى ولا غنى عنها على المستوى الدولي. وأيضا انضمام قوى إقليمية جديدة مثل الهند والبرازيل وجنوب إفريقيا التي تميل لمشروع نظام دولي جديد أكثر توازنا على المستويين السياسي والاقتصادي.
إن بعض القوى الدولية مثل الصين وروسيا ماضية قدما في استقطاب العديد من القوى الاقتصادية الإقليمية بهدف الانخراط في نظام اقتصادي دولي جديد يكون "الكل فيه رابحا"، وذلك بعكس نظام القطب الواحد الرأسمالي الذي اتسّم بالهيمنة الاقتصادية على الدول المَدِيْنَة.
ويتجلى ذلك من خلال النقاط التالية.
أولاً: منذ الإعلان عن تأسيس مجموعة بريكس BRICS سنة 2009، كمجموعة تعاون وتنسيق اقتصادي يضم روسيا والصين والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا، لا تزال جهود هذه الدول متواصلة لإرساء ما تم الاتفاق عليه حول تأسيس نظام عالمي متعدد الأقطاب والتعاون في المسائل الاقتصادية بما فيها المجال المالي والغذائي والتنموي. ومن المفترض حسب معطيات غولدمان ساكس البنكية، فإن هذه المجموعة التي تمثل ربع اليابسة و40% من سكان العالم، سوف تكون المنافس الأقوى لاقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية بحلول سنة 2050.
ثانياً: دعّمت مجموعة بريكس توجهاتها الاقتصادية الجديدة بتأسيس بنك التنمية الآسيوي الجديد برأسمال مشترك وموزع بين الدول الأعضاء. ويهدف هذا الصندوق إلى إعادة تشكيل النظام المالي العالمي. وفي الواقع ربما يكون تأسيس هذا البنك رداً عملياً ضدّ ما يعتبره البعض سياسة مجحفة يمارسها البنك وصندوق النقد الدوليين ضدّ الدول النامية.
ثالثا: أطلقت الصين سنة 2013 مشروع حزام طرق الحرير، وهو مشروع طموح تهدف من ورائه الصين ربط اقتصادها، براً وبحرا، بالشرق الأوسط وإفريقيا وأوروبا مرورا بآسيا الوسطى. وبالرغم من بعض التخوفات في البداية، إلاّ أن معظم الدول انخرطت إيجابيا في هذا المشروع بما في ذلك روسيا، معتبرة هذا الأمر مشروعا إضافيا من شأنه أن يعزّز نظام التعددية القطبية.
وفي مقابل هذه التطورات الجيوسياسة الدولية بشكل عام وتأثيره على منطقة الخليج العربي بشكل خاص، يبقى السؤال مطروحا حول الخطط المستقبلية لاقتصاديات دول الخليج، وإلى أي مدى تنخرط هذه الدول في النظام الاقتصادي والسياسي الدولي الجديد، في ظل ظاهرة ضغوط انتشار الإرهاب والحروب والصراعات التي أصبحت لا محالة تستنزف اقتصاداتها وصناديقها السيادية، وتهدّد التنمية ومتطلباتها.
ربّما يكون التقارب الخليجي الروسي الأخير والزيادة في حجم المبادلات مع الصين والهند مؤشرات إيجابية من شأنها أن تدعم استراتيجية التوازن الاقتصادي والتنويع في مصادر الدخل والصناديق الاستثمارية الخليجية.
وفي الجانب الآخر قد تساهم دول الخليج في تأسيس نظام دولي جديد أكثر أمناً وتوازناً. ويمكن أن تمثل، بفضل ثقلها المالي والاقتصادي وموقعها الجغرافي، منصة استراتيجية للربط بين الشرق والغرب. ولكن تبقى الصورة غير واضحة لأن الفكر الاستعماري الغربي يتجدّد هو الآخر ضمن مظاهر وشعارات جديدة، ربّما يكون لها تأثير قوي في تحديد التوجهات السياسية والاقتصادية الخليجية المستقبلية.

  • المنتدى الدولي الخامس بالداخلة - المملكة المغربية 7-8 ديسمبر 2017

    المنتدى الدولي الخامس بالداخلة - المملكة المغربية 7-8 ديسمبر 2017

  • المنتدى الدولي الخامس بالداخلة - المملكة المغربية 7-8 ديسمبر 2017

    المنتدى الدولي الخامس بالداخلة - المملكة المغربية 7-8 ديسمبر 2017

  • المنتدى الدولي الخامس بالداخلة - المملكة المغربية 7-8 ديسمبر 2017

    المنتدى الدولي الخامس بالداخلة - المملكة المغربية 7-8 ديسمبر 2017

  • المنتدى الدولي الخامس بالداخلة - المملكة المغربية 7-8 ديسمبر 2017

    المنتدى الدولي الخامس بالداخلة - المملكة المغربية 7-8 ديسمبر 2017