«كيــف تـدمــر بلــدا فـي 30 سنـــة»

وضع الأستاذ «سعد القرش»، العنوان المذكور أعلاه تحت عنوان مقاله «المتلاعبون بالعقول»، المنشور في مجلة الجديد (aljadeedmagazine.com) اللندنية (22 نوفمبر 2016)، ومما لا شك فيه إن العنوانين يستفزان الضمير العربي الحي الذي عاش وتمعّنَ في مسلسل أحداث المنطقة منذ أكثر من نصف قرن، منذ بدء المشاريع التنموية الشاملة في بلادنا العربية بعد الاستقلال، حتى بدء مشاريع التغيير الجيوسياسي الشاملة والمدمرة للمنطقة برمتها. اعتمد كاتب المقال في عرض رأيه حول التغييرات المأساوية على واقع التعليم المتردي ببلده، مصر، فلم أجد فيما سرد الكثير من الاختلاف عما حدث للتعليم في منطقة الخليج العربي، وأخص في هذا المقال بلدي، البحرين... ولتفصيل ذلك، وكما اقتبست العنوان، سأحاول هنا تفسير رأيي بذات السياق الذي اتبعه الكاتب في مقاله.

بدأ التعليم في بلادي مع بداية القرن العشرين، وتم تنظيم إدارة المؤسسة التعليمية قبل منتصف القرن... وفي فترة الستينيات تم تطوير العملية التعليمية بمناهج وسياسات جديدة، بكل ملحقاتها من كتب ومدرسين ومدرسات، بالتعاون مع مصر جمال عبدالناصر... مصر التحرر والمد القومي... مصر الحلم العربي الذي غرس في وجداننا حب الوطن والأمة وهويتها وعقيدتها وماضيها ومستقبلها، في المدرسة والتعليم، نصاً وفكراً... فكان كل ما ندرسه من علوم ولغة وحساب وقراءة ودين وأدب وجغرافيا وتاريخ ينبض بحس وطني وقومي عربي يزرع في خلايا عقولنا وقلوبنا ولاء للهوية العربية والتراب الوطني، وشعوراً بتفاني الوجدان في قضايا أمتنا التي كانت بحاجة للتغيير بالعلم والمعرفة، لبناء نهضتها واللحاق بركب ذلك العصر الذي كان ينطلق في قطار الصناعة نحو علوم التكنولوجيا بسرعة البرق.
قبل منتصف سبعينيات القرن العشرين، ومع بدء مغادرة الاستعمار للمنطقة، بدأت عملية التغيير، أو الانقلاب، في السياسات التعليمية بشراسة ناعمة. ألغيت المناهج الأولى وسياساتها، لصالح مشروع السيطرة على العقول والتصدي للمد المعرفي الذي كان يتسع نطاقه عمودياً وأفقياً في كل مساحة الوطن العربي، وكان يُشعل حماس جيل عربي واسع للقضاء على التخلف، ورفض الاستعمار.
في ذلك الوقت المبكر بدأ التحول في سياسات التعليم بالتوازي مع الثراء الجديد الذي غيّر شكل المنطقة ومضمونها في سنوات قليلة. وبدأ التوجه نحو سياسات التلقين من جهة، وسياسات التحريم والتكفير للفكر الحر وفلسفة الجدال ومنع اكتساب المعرفة والإبداع من جهة أخرى... وانتشر الملقِنون (بكسر القاف) ليتلاعبوا بالعقول الطرية ويضعوها في قوالب تتراوح أنواعها ما بين التفاهة والأدلجة والأسلمة والطأفنة... وبعد أكثر من ثلاثين سنة ثبت نجاعة المشروع.
ومع بداية الثمانينيات وصعود أسهم الثورة الخمينية من جهة، وحرب أفغانستان من جهة أخرى، كان جُل من يُبتعث من أبنائنا وبناتنا إلى الغرب للدراسة يُعبّأ بالإسلام السياسي والطائفي الراديكالي، ليُبعث بعضهم مباشرة إلى أفغانستان ليكون وقود الحرب ضد «الكافر» الشيوعي لمصلحة «الكافر الرأسمالي»، وليعود البعض منهم محملاً بفكر غريب وطارئ على المجتمع، يبدأ بتكفير ورفض وتكفير فكر الوالدين، والانضمام مع العائدين من جبهات القتال والحوزات الدينية في نشر الطقوس الدينية وتنظيم الصفوف.
ذلك الجيل، ومن تلاه، تَعثّر حظهم التعليمي البائس في ظل رفاهية ثروات النفط، التي أنعشت اقتصاد المنطقة، وقلبت كيانها القيمي والتعليمي رأساً على عقب... فاستوردت سلوكاً شاذا عن بيئتها ونسخت كل ما سبق من قِيَمَها الفكرية... فأصبحت المعرفة في بلادنا أول ضحايا النفط، فحُرِمَ جيل واسع من ذلك التعليم الوطني الذي حظي به مَن سبقهم، من جيل الأوائل، من ناهلي العلوم والمعرفة قبل ذلك التاريخ.
وما كاد أن ينتهي القرن العشرين حتى كانت الصناعة مكتملة... جيل جديد من نوع آخر، مختلف سلوكاً وأخلاقاً وفكراً في خليجنا العربي الوديع المسالم... سلوك وفكر يرفضان أركان المجتمع وقيمه، بدءاً بالأسرة ثم المعلم المستنير وأخيراً الرمز الفكري والوطني، لصالح تقديس الآيديولوجيا، والمعلم المؤدلج، والرمز السياسي الديني الراديكالي، وسيطرة قيم الحزب في التغيير للرجوع لما يُدعى بالإسلام «الصحيح» بالعنف والقوة.
منذ أقل من عامين وقع بين يدي مقال مكتوب بقلم صحفي وكاتب عمود، شاب، قبل أن يمسه قلم المصحح اللغوي... وأرعبني هول ما رأيت، إذ كان ذلك الشيء الذي يُدعى مقالاً، يتكون من فقرة واحدة مفككة، بجُمَلٍ غير مترابطة، وكلمات غير واضحة المعالم، ناهيك عن كتلة الأخطاء اللغوية والإملائية... كان ذلك المكتوب في تلك الورقة، بعِدّه وعدِيدِه، لا يعطي مضموناً يمكن فهمه، أي لم أتمكن من معرفة ما يريد أن يقوله (الكاتب)... وعندما تيقنت بأن هذا ليس (المقال) الوحيد، بل هو ديدن ذلك الشاب المسكين، قبل أن يُنشر مقاله منمّقاً في عموده اليومي، وأن نتاج عمل العديد من الصحفيين والكتاب الشباب في صحافتنا المحلية تشبه تقريباً هذا النتاج الصحفي، حينها رأفت لحال المصحح اللغوي على عمله المرهق في لملمة شتات تلك الكلمات ليجعل منها مادة كتابية يتباهى بها الصحفي بعد نشرها... ولكن حزني الأعمق كان على مجتمع خسر جيلا مضى وسيخسر أجيالا قادمة، في ظل تعليم متدن، وإدارات تعليمية جاهلة بما يدور في صروحها.
هذا الشاب الذي حاز على لقب «كاتب عمود صحفي»، ووافق المجتمع على تربعه فوق هذا العرش الإعلامي الأكثر أهمية في صناعة الوعي والرأي العام، لهو حالة تستحق الدراسة لمعرفة مخلفات مشروع التلاعب بالعقول، على مدار أكثر من 30 سنة، منذ أن أُقفلت أبواب المعرفة بمزلاج من الفولاذ المدهون بطلاء الذهب الأسود أمام جيل كامل في بلادي.
والحديث هنا عن ظاهرة جيل عربي جديد من الأميين كتابياً، والعاجزين عن صياغة جملة لها مدلولاتها العقلية، بلغة عربية سليمة، هي لغتهم الأم، لغة هويتهم وأوطانهم، وتاريخهم الذي طُمِرَ بتعمد وسبق الإصرار... وتبع كل ذلك فقدانهم القدرة على استلهام المعرفة من بطون الكتب، أو حتى من مصادرها الإلكترونية في التكنولوجيا الحديثة، بل يصل بهم العجز إلى مستوى عدم التمييز ما بين التعليم والمعرفة، أو ما بين البناء المعرفي وهواية اخذ المعلومات المشطورة إلكترونياً، وهو ما يتباهى به أبناؤنا اليوم.
هذا الجيل السائد والمتسيّد اليوم في أغلب القطاعات الخاصة والعامة، هو من مخرجات الطفرة النفطية، التي ألغت العقول وأعمت الأبصار بصدمة الثراء المفاجئ، والتي فعلت مفاعيل «الصدمة والرعب» في التكوين العقلي للمجتمع عموماً، فنجح اختراقه، حتى باتت اللغة والهوية والثقافة والمعرفة والفكر والبحث العلمي والعقل النقدي خارج قائمة أولوياته.
في بلادنا حققت سياسات التلقين في التعليم، والتسطيح الفكري في الإعلام، أهدافها خلال أكثر من ثلاثة عقود، فنجحت في فك انتماء العربي عن عروبته عبر شيطنة فكرة العروبة وجعلها قرينة التخلف والكفر والعنصرية... ونجحت في جعل العقيدة الدينية (المذهبية) هوية سياسية تطغى على الهوية الوطنية، حتى نجحت مشاريع التفكيك الطائفي والمذهبي في تأجيج مجتمعاتنا وتقسيمها لصالح ولاءات وانتماءات خارجية ندفع اليوم أثمانها بخسائر بشرية ومادية ومعنوية فادحة.
في ذلك التاريخ بدأت المحافل الثقافية العربية بإطلاق صفارات التحذير ضد ما سُمي حينه بـ«الغزو الثقافي» الذي يجتاح عالمنا العربي، وكنت ممن يسمع تلك التحذيرات المدعومة بالمبررات والنماذج الحية في بداياتها... وأعترف بأنني، في ذلك العمر المبكر، لم أتمكن من لمس مدلول مادي لذلك «الغزو»، حتى تيقنت من حقيقته الخطيرة عبر ظاهرة التراجع الفكري والقيمي الذي ساد مجتمعاتنا لاحقاً.
فذلك الذي وصفه المثقفون العرب الأوائل بمشروع «الغزو الثقافي»، والذي زينه أصحاب المشروع بمسميات العولمة كظاهرة حضارية متمدنة، هو ما يُسمى اليوم بمشروع «التلاعب بالعقول»، بعد أن بات التعليم يعمل جنباً إلى جنب الإعلام لتسطيح العقل، ونشر الأمية المعرفية.
وتحقق الهدف، فكان التدمير منظماً، وباتت عقول شبابنا رخوة، تتلاعب بها كل أنواع القوى الناعمة، في غزوات ثقافية متعددة الأشكال والمناهج، من الشرق والغرب، من السقوط القيمي حتى التطرف الديني، من العنصرية والطائفية إلى التباهي بالأنساب والأعراق... وما الغوغاء السياسي والثقافي، ورفض الآخر بكل أشكاله، واجترار الأحقاد التاريخية، وفقدان قيم الحوار والتسامح، الذي نعيشه اليوم، إلا مشهد من مشاهد ذلك الغزو والاحتلال والاستيطان الفكري الذي ساد العقول، حتى بات الوطن والمواطن العربي رهن إرادات خارجية.
وإن كان هناك إرادة حقيقية اليوم لكشف ودراسة حال التعليم في بلادنا فإنّ أول ما يجب رسمه على ورقة هذه الدراسة البحثية هو تصنيف مراحل التعليم، السابقة والحالية واللاحقة، بالمسميات الدالة والحقيقية.
فهناك تصنيفات القرن العشرين المعنية بالتعليم في فترة ما قبل الطفرة النفطية، ثم التعليم أثناء فترة الطفرة النفطية، والتي تزامنت مع مشاريع التنمية من جهة، ومشاريع أسلمة وطأفنة التعليم، والإعلام، من جهة أخرى لمعرفة الفرق في مستوى مخرجات تلك الفترتين، ولتقدير مدى النكوص الفكري والتعليمي الذي أصاب المجتمع والدولة، وخصوصاً مع المد الكاسح لمشروع تصدير الثورة الخمينية في عقول مساحة كبيرة من النشء منذ ذلك الوقت.
ثم هناك ما يخص تصنيفات جديدة للتعليم في القرن الواحد والعشرين، بالتزامن مع ما يُدعى بالحرب على الإرهاب، وما تحمله هذه الحرب من غموض وتأثير بالغ الخطورة على حاضر ومستقبل المنطقة عموماً، في مقابل مؤسساتنا وسياساتنا التعليمية البالية والخاوية فكراً وفلسفةً... ففي الوقت الذي يعتبر التعليم والإعلام أهم الأدوات في مواجهة الاستلاب الفكري الذي يطحن جيلا عربيا كاملا في جحيم أحداث المنطقة، فإنّ النكوص الفكري العام في المنطقة لهو أدنى من أن يساعد جهاز الدولة في معرفة الواقع المدمر لخفايا المتغيرات الجديدة، التي باتت واقعاً ملموساً في حياتنا اليومية.
وهنا لا يمكن إلا أن نؤكد أن مشروع الحرب على الإرهاب، الذي تم تصديره الى المنطقة في الساعة الأولى بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، لم ُيختصر في تلك العمليات المفخخة وما يقابلها من تحالفات وغارات وقنابل وقذائف تمطر أرضنا العربية منذ بداية القرن الجديد، بل إن ذلك المشروع يتضمن حرباً ناعمة وشاملة على المنظومة العربية السياسية والتشريعية والتنفيذية والقضائية، وأمعنت بشكل خاص في خلق موجة جديدة من التغيير في مناهجنا التعليمية، أكثر سوءاً وعشوائيةً.
أما فصل المستقبليات من الدراسة المذكورة عليه أن يهتم بأمر التعليم في ظل أزمة أسعار النفط والابتزاز الاقتصادي والهدر المالي الذي تعيشه منطقة الخليج العربي عموماً، وما يرافق ذلك من تصفير للثروات والأصول والاحتياطيات، وتراجع تنموي، وتقلص مستويات الرفاهية، التي وُلِدَ وعاش فيها أبناؤنا، وما يصاحب هذه الفترة من مظاهر التطرف والعنف الديني والتفكك المجتمعي، وثورات سوداء متوقعة... مترافقاً مع كتلة المتغيرات في العلاقات والمنظومة السياسية الدولية التي نتوقع تبلورها قبل نهاية النصف الأول من القرن.
وبحسب الأدوات التحليلية والاستشرافية للواقع التعليمي الحالي فمن المتوقع، بعد عدد قليل من السنوات، أن تواجه بلداننا (المستهدفة والمخترقة) مخرجات تعليمية أكثر تشتتاً، وأضعف قدرة على تحمل مسؤولياتها الإنسانية والوطنية الجديدة، في ظل الفوضى الذي بات واقعاً خفياً ينخر في مفاصل المجتمعات والدول على مستويات عديدة.
وهنا لا يفوتنا التذكير بأن منطقة الخليج العربي تعاني شحاً خطيراً في المنظومة البحثية عموماً، كدليل على تدني القدرات العلمية والتعليمية، على الرغم من الازدياد المطرد لأهمية هذه المراكز ودورها في كل دول العالم كأهم المصادر المساعدة في رسم السياسات الوطنية العامة، ودعم صناعة القرار في الدول العصرية.
وبموجب إحصائية جامعة بنسلفانيا في 2-9-2016 حول انتشار مراكز الفكر في العالم لعام 2015
(2015 Global Go To Think Tank Index Report)، يتبين أن هناك 6846 مركز فكر ودراسات في العالم موزعة على الدول القارات، منها 39 مركزاً فقط في دول الخليج العربي... ومن واقع الخبرة والتعامل المباشر مع هذه المراكز الخليجية، يمكننا تأكيد أن أغلبها لا تقوم بالدور الفاعل المطلوب منها كمؤسسات فكرية... والأخطر من ذلك أن أغلب مراكزنا الفكرية الخليجية تدار من قِبَل مراكز فكرية أجنبية غربية، بعقود تكلف بلداننا أرقاماً كبيرة في ميزانياتها... وهو أمر يؤكد أولاً انعدام الثقة في قدرات الكوادر العلمية الوطنية، وثانياً يكشف مستوى التقييم السلبي لمسيرة قرن كامل من التعليم في بلادنا...
وهنا أتوقف لأنهي هذا المقال-الصرخة، معتمدة على ذكاء القارئ في تخيّل مخرجات هذه المراكز الفكرية في توجيه صناعة القرار في بلادنا!!.