«إدارة الفهم، وهندسة التجهيل»... في التربية والتعليم

في بحث علمي قصير في صفحاته، كبير في محتواه، تحدثت الباحثة السعودية الدكتورة نوف عبدالعزيز الغامدي حول مفاهيم «إدارة الفهم، وهندسة التجهيل»، لتفتح لنا آفاقًا بحثية ومعرفية حول حقيقة هذين المفهومين وعلاقتهما بالواقع العربي المتدهور الذي نعيشه منذ الربع الأخير من القرن الماضي حتى اليوم، والذي يدفع بالعرب نزولاً نحو القاع الذي سيكون الارتطام به مدويًا، مدمرًا، وغير قابل للعلاج (جوزيف جوبلز- وزير الدعاية الهتلرية).

تقول الدكتورة الغامدي عن هندسة الجهل وعكسها (إدارة الفهم) أو ما يُعرف باسم علم الوجود (Agnotology/ اجنوتولوجي)، إنها الكلمة الجديدة التي «تشير إلى دراسة الأفعال المقصودة والمتعمدة لإشاعة الحيرة والشك والخداع بهدف تحقيق مكسب أو بيع سلعة أو نشر الجدل لاستنزاف طاقة البشر... جميع الدول أو المؤسسات اليوم تريد أن تمتلك المعرفة ومصادر المعلومة، فالمعرفة قوّةٌ ومكانةٌ وجدارة، وهي سلاح فعال يضاهي أفتك الأسلحة وأقواها، لهذا، قامت بعض الجهات العالمية بتأسيس مفاهيم جديدة تتعلق بالمعرفة مثل: (إدارة الفهم)، والتي تُعرّف بأنها نشر لمعلومات أو حذف لمعلومات من أجل التأثير في تفكير الجمهور، والحصول على نتائج يستفيد منها أصحاب المصالح، الأمر الذي يجعلها تضاد وتُعاكس فكرا معرفيا آخر، يُسمى (علم الجهل)، وهو العلم الذي يدرّس صناعة ونشر الجهل بطرق عِلْميَّة رصينة.

علم الجهل Agnotology يدرّس غرس ثقافة الجهل أو الشك أو الوهم، ويجري من خلاله نشر بيانات خاطئة أو مخَطَأة أو غير كاملة.....» (انتهى الاقتباس).
وتؤكد الدكتورة الغامدي في ورقتها العلمية أن وسائل التواصل المختلفة (ومنها الإعلام) تعد أحد أهم محركات هندسة التجهيل، لما تمارسه من أدوار متعمدة «سواء كان ذلك بالتجاهل، أو العرض المنقوص، أو العرض المتعمد، أو التلاعب بالنصوص».
وبجانب ذلك المحرك يأتي دور المؤسسات الحكومية (ومنها مؤسسات التعليم)، ومنظمات الأعمال، كمحركات رئيسية ساهمت وتساهم في هندسة تجهيل المجتمعات «عبر أساليب الكتمان، والتكتيم، والطمس، وإتلاف المستندات، وإخفاء المعلومات».
أما الإدارات السياسية، بتنوعاتها، فدورها ومساهمتها في إدارة الفهم وتجهيل المجتمعات ينحصر عبر ما «تنشره من أمور قد يتمخض عنها شكل من أشكال التجاهل أو التمويه، أو النسيان».
سأتوقف هنا عن سرد المزيد من مضمون تلك الورقة البحثية القيّمة، رغم ما تحتويه من معلومات مهمة حول المناهج العلمية ذات العلاقة بتعليم الجهل، عبر تشتيت الإدراك، وبث الخوف وإثارة الشكوك وصناعة الحيرة، ثم الفوضى، وما يُدعى بالفوضى الخلاقة. وهدفي من هذه المقدمة العلمية والمقال عمومًا هو إلقاء الضوء على علاقة الأزمات التي تعيشها بلادنا العربية بنظريات إدارة الفهم وهندسة التجهيل، التي تم العمل بها بمنهجية حريرية للإخلال بمناهجنا وسياساتنا التعليمية والإعلامية، فتجسدت مخرجاتها في الغوغاء الفكري والعنف الجماهيري الذي عم مجتمعاتنا منذ أحداث ما عُرف بـ«الربيع العربي» وما تبعه من صراع وإرهاب ودمار وتخريب.
وهنا، أربط هذا البحث النظري بواقع حال مؤسساتنا التعليمية، والإعلامية، التي تعمل بعلم أو بجهل، عن سبق إصرار وتعمد أو بلا تعمد، على تطبيق هذه النظريات والمناهج الخطيرة، فكانت مخرجاتها جيلاً يعمه الجهل المعرفي، والهزال العلمي والبحثي والفكري، إلى درجة الهشاشة القابلة للاختراق من دون مقاومة، حتى أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي في بلادنا جبهة حرب واقعية، وشرسة، سلاحها وجنودها مجموعة من الأكاذيب، تهجم من الخارج لنشر الفوضى والتقاتل في الداخل، ولربما كانت البيانات التحذيرية التي أصدرتها مؤخرًا وزارة الداخلية البحرينية في هذا الشأن أبلغ دليل على ما تسببه تلك الوسائل من خطر حقيقي، نتيجة قدرتها على اختراق العقول التي بات من السهل التلاعب بها بالأكاذيب، لتدمير مجتمع كامل.
إدارة الفهم، هندسة التجهيل... و«الربيع العربي»:
كان أغلب المثقفين العرب يعتقدون أن أول ما ستقوم به الأنظمة العربية التي نجت من أحداث «الربيع العربي»، والمآسي التي خلّفتها هذه الأحداث، بأنها ستبدأ بالبحث علميا حول دوافع وسبل ووسائل تنظيم تلك التجمعات الكبيرة في الساحات، والأدوات التي تم استخدامها للتداعي الجماهيري، وكيفية صناعة وإعداد منظومة الهتافات والشعارات المتقنة التي تم رفعها، ثم التعرف على عقول قياداتها الافتراضية التي تنوعت ما بين فئات الشباب، والنساء، ورجال الأعمال، وطلبة الجامعات، وأطفال المدارس، وغيرها... وكان يكفي دراسة حالة واحدة من الحالات التي انتشرت في دولنا العربية لمعرفة أسرار باقي الحالات، حيث تم تنظيمها وإعدادها بأسلوب واحد، ومن مصدر واحد، رغم كل ما قيل من مزايدات وأكاذيب، حول عفويتها... فإن كل الآمال خابت بالفشل بعد أن تمكنت ماكينة الجهل والتجهيل من تجاهل كل ذلك، ولم يتحرك طرف عربي لدراسة أحداث المنطقة بواقعية علمية رصينة، من دون تطرف أو نفاق، فاستمر حال الأمة على ما كان عليه، في سبات وجهل بمدى الخطر الذي يحيط بها وينخرها من الداخل.
ورغم أن تلك الأحداث تعد النموذج الأوضح لنظرية الفوضى التي يصعب تحديد أطرها الواسعة، فإنه كان، ولا يزال، يسهل دراستها عبر نظريات «إدارة الفهم وهندسة التجهيل» التي فُرضت على مؤسساتنا التعليمية، والإعلامية، بمنهجية حذرة منذ سبعينيات القرن الماضي، لصناعة أجيال من الدهماء، والغوغاء، وعلاقة كل ذلك بأصحاب المصالح في التغيير الذي أعلن عنه في مجلس الأمن عشيّة غزو العراق في فبراير 2003، على لسان كولن باول، بانتهاء صلاحية اتفاقية سايكس بيكو، وحلول وقت التغيير الجيوسياسي الاستراتيجي لخلق شرق أوسط جديد.
دراسة حالة... نموذج:
في واقعنا العربي من الخليج إلى المحيط العديد من الحالات التي يمكن دراستها لفهم المناهج والسياسات التعليمية العربية التي أجادت، على مدى نصف قرن تقريبًا، تنفيذ نظريات «إدارة الفهم وهندسة التجهيل» في عموم مستويات التعليم، ومن دون استثناء... ولأن التفاصيل تعد من أهم أدوات الدراسات البحثية، سأهتم هنا بتفاصيل حالة بسيطة في شكلها، وخطيرة في مضمونها ونتائجها، تعد نموذجًا للمنهجية الحريرية في تنفيذ تلك السياسات.
لقد استوقفني مؤخرًا أمر ذو علاقة دفعني للرجوع إلى ورقة الدكتورة الغامدي كمرجع علمي لفهم الكثير من الأحداث المبهمة في واقعنا السياسي والثقافي والاجتماعي الراهن... وكان ذلك هو تصريح الدكتور الشيخ عبداللطيف المحمود (أمين عام تجمع الوحدة الوطنية)، في صحيفة أخبار الخليج (18/4/2018) مطالبًا وزارة التربية والتعليم البحرينية «بوقف تزييف تاريخ البحرين المعاصر»، ومنبهًا حول ما يحتويه كتاب مدرسي لمادة التاريخ، من معلومات غير دقيقة عن بعض وقائع الأحداث البشعة التي مرت بها بلادنا في عام 2011، ما دفعني إلى البحث والوصول إلى الكتاب المعني وقراءة محتواه بتمعن، وفهم أبعاده التعليمية، لما لذلك من أهمية تاريخية ومعرفية وسياسية وأمنية لحاضر ومستقبل البحرين.
ومع رجائي لجميع المهتمين بأمر التعليم وضمان جودته، الرجوع إلى الكتاب المعني وقراءته بأبعاده التعليمية والسياسية والتاريخية، سأحاول هنا تبسيط رأيي، وبإيجاز أتحمل مسؤوليته، لأؤكد أن المادة التاريخية المعنية بالأحداث المشؤومة، والتي يتم تدريسها لطلبة مرحلة من مراحل التعليم الأساسي في مدارس مملكة البحرين، تعد نموذجًا لهندسة تجهيل واختطاف عقول أبنائنا، وتشتيت إدراكهم حول تاريخهم، واجتثاثه من الجانب الإيجابي المشرق في هذا التاريخ، حتى يفقد الطالب الإيمان بذاته، ويفقد القدرة على مواجهة عدوه.
اعتمد المؤلف في صياغته للمادة على تكثيف النصوص المقتبسة، البعيدة عن المضمون التعليمي والتأريخي المطلوب... ومن المؤسف أن الاقتباس تم بأسلوب يخلو من الذكاء العلمي تمامًا، للالتفاف على تعمد إلغاء وتزييف معلومات مهمة ورئيسية، لأجزاء من تاريخ الأحداث موضوع الدرس، والذي يؤكد تحريفها بأسلوب يشتت إدراك الطالب بين ما يتعلمه في المدرسة، وما يتعلمه خارجها، حتى يعيش حالة اللامبالاة والجهل بتاريخه.
من الواضح تمامًا أن مَن وضع تلك النصوص ومن قام باعتمادها، كان يتعمد إغفال وقائع معينة، كما جاء في تصريح الدكتور المحمود، ولم يكن تجاهل واجتزاء ذلك الجزء الأهم في أحداث عام 2011 من الكتب المدرسية عملا عفويا، أو حصل سهوًا، كما جاء في تصريحات الوزارة المعنية، وخصوصًا إذا تواجدت تيارات سياسية مؤدلجة في إدارة التعليم لها خصومات سياسية، ولها أهداف ومرجعيات في إدارة الفهم، يمكن اكتشافها في هذا الأداء الخالي من الهاجس الوطني، المفرغ من مضمونه العلمي التاريخي الملهم والمستمد من الوقائع.
وحيث إنه يجب أن يكون لكل مادة في مناهج التعليم غاية وهدف، فإننا نتساءل هنا: يا ترى ماذا حققت تلك المادة التعليمية المبتورة من غايات وأهداف؟؟!!
القراءة العلمية والسياسية:
إن القراءة السياسية والعلمية لهذا الموضوع بالتحديد (كنموذج)، تؤكد أولاً: أن الطالب المدرسي الذي يجب أن يكون هو هدف المادة التعليمية، لم ولن يستفيد من هذه النصوص السردية لفهم تلك الفترة وأحداثها التي يجب أن نوثقها نحن بذكاء علمي وتأريخي، كما تفعل الأمم الأخرى في توثيق تاريخها، عوضًا عن أن يكتبها الآخرون بما لا ينصف حق البحرين وشعبها، الذي وقف صفا واحدًا لقتل الفتنة ومنع الانزلاق نحو حرب أهلية، كالتي انزلقت بها دول عربية أخرى ولم تخرج منها حتى اليوم.
وتؤكد ثانيًا: أن هناك أطرافا مستفيدة من هذه المادة التعليمية الخطيرة، التي بَتَرت أهم عنصر تاريخي من سياق تلك الأحداث؛ أولئك هم أصحاب المصالح الآيديولوجية، ومَن له مصلحة في اجتثاث جيل عربي من تاريخه.
وأخيرا: إن أسلوب التزلف والنفاق الذي تجسّد في صياغة تلك المادة لهو أوضح من أن يتم إغفاله، وقد تجسد ذلك الأسلوب بالتركيز وتكثيف النصوص المقتبسة من أقوال وخطابات رموز الدولة في النص التعليمي، حتى من دون تحمل عناء دمجها في سياق الأحداث والمواقف الرمزية المهمة والضرورية بأساليب تربوية معتمدة لتحفيز الفكر على النقاش والمعرفة وخلق الإيمان بمعاني ومفاهيم الوطنية، التي تم محوها على مر السنين من مناهج التعليم عمدًا وقسرًا... فأسلوب النفاق والتزلف في تلك المادة التعليمية، يشهد على مساعي البعض للفوز بالحظوة على حساب عقول أبنائنا ومستقبلهم المعرفي والعلمي، وعلى حساب تاريخنا الذي يجب فهمه والإيمان به، ليكون مرجعًا علميا يسند مواقفنا المستقبلية في الدفاع عن الوطن وأمنه واستقراره؛ وهو أمر لا يقبله أي زعيم أو قائد سياسي، ولا يقبله مشروع جلالة الملك الإصلاحي، الذي يعتمد على التعليم وتربية النشء كأهم استثمار في التنمية البشرية في مملكتنا البحرينية الجميلة.
لم يتحمل مؤلف المادة مسؤولية الاهتمام بتبسيط سرد بعض وقائع تلك الأحداث بما يتناسب مع عقل الطالب في الفئة العمرية المستهدفة، وبما يجسد معاني المواطنة التي حتى الآن لم تتمكن مدارسنا من بلورتها وغرسها في عقل وقلب النشء بعقلانية وموضوعية وإيمان، وليس بمجرد شعارات.
لم يتمكن المؤلف من أن يربط مفاهيم وقوة المشروع الإصلاحي الديمقراطي الذي نعيشه ونمارسه كل يوم، بعملية المواجهة والتصدي للغوغاء والأحداث الطائفية التي كانت تستهدف تدمير بلادنا، لولا وقوف شعب البحرين وقيادته صفًّا واحدًا في مواجهة المخربين.
وأخيرا، لم تتمكن تلك النصوص من وضع طوبة واحدة في بناء فكر الطالب بما ينصفه ويربطه بوطنه كشريك رئيسي في عملية البناء التنموي، لقطع الطريق أمام محاولات الغوغاء والإرهاب والعنف والتخريب، والانقلابات الدموية، واختطاف عقله في برامج «إدارة الفهم، وهندسة التجهيل.
قد تُعد هذه الحالة مجرد نموذج بسيط جدًا مما يتم ممارسته لتجهيل شعوبنا، وتحريف وتشويه إدراك أجيالنا، عبر «نشر لمعلومات أو حذف لمعلومات لأجل التأثير في تفكير الجمهور، والحصول على نتائج يستفيد منها أصحاب المصالح....»، وبإمكان مراكز البحث والفكر والدراسات العربية تأليف مجلدات في هذا الشأن، عبر قراءات وطنية، باتت الأمة بأمس الحاجة إليها، لإيقاف نزيف تدمير الأجيال الذي يتم في غفلة سياسية، وفوضى إدارية، تجتاح المنطقة كالسيل الجارف... على أمل أن «لا نستيقظ يومًا لنجد أنفسنا ميتين».


كلمات دالة: