دور القـــــــوى الـنــــاعــمـــة فــــي التــحـــــولات السيــــــاسيــــــة والجيواستراتيجية في المنطقة العربية والعالم

لا يمكن لعاقل اليوم أن يرفض مبدأ التطوير والإصلاح بمختلف جوانبه السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والتربوية وغيرها. فعملية الإصلاح والتطوير المستمر هي القلب النابض لأي مجتمع، وهي الضامن الأساسي لاستدامة الوطن.
ولكن إذا ما تعمّقنا في الأحداث التي ضربت بعض الأقطار العربية خلال الثلاث السنوات الأخيرة، تكاد تنطبق علينا اليوم...

مقولة «نحن شعب لا نقرأ، وإذا قرأنا لا نفهم».
ربما لا يحبّذ البعض الربط بين أحداث المنطقة العربية وما يسمى «المؤامرة» أو التدخل الخارجي، لكن معظم التحاليل السياسية الحالية والوثائق المسربة أصبحت تتّجه إلى فكرة أن ما حصل ويحصل وما سيحصل في المنطقة العربية مستقبلاً، ليس بمعزل عن تأثير الأدوات السياسية الجديدة أو ما يسمى القوى الناعمة التي تُدير معظمها أطراف خارجية بهدف إعادة تشكيل العالم والمنطقة العربية بالخصوص.
وإذا افترضنا وجود استخدام لأدوات القوى الناعمة من أجل إحداث تغيير معيّن في المنطقة العربية، وجب علينا منهجيا الرجوع الى الاستخدامات السابقة لهذه الأدوات في مناطق أخرى من العالم، والأهداف التي حقّقتها.
تعني القوة الناعمة أن يكون للدولة قوة روحية ومعنوية من خلال ما تجسده من أفكار ومبادئ وأخلاق ومن خلال الدعم في مجالات حقوق الإنسان والبنية التحتية والثقافة والفن، مما يؤدي بالآخرين إلى احترام هذا الأسلوب والإعجاب به ثم اتباع مصادره، وغالبا ما يطلق هذا المصطلح على وسائل الإعلام الموجهة أو ما يسمى «الإعلام الموجه» لخدمة فكر ما، وتعتبر القوة الناعمة من أفضل الأسلحة السياسية العسكرية إذ من خلالها، يمكن السيطرة على الآخرين ويمكن أن تجعلهم متضامنين معك من دون أن تفقد قدراتك العسكرية.
ورغم ظهور مصطلح القوة الناعمة في تسعينيات القرن الماضي عن طريق عالم السياسة الأمريكي Joseph Samuel Nye الذي شغل منصب مساعد وزير الدفاع للشئون الأمنية الدولية في إدارة الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون، فإنه وقعت ممارسته فعلياً في فترة الحرب الباردة من خلال تصدير مفاهيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.
ومن بين عناصر القوة الناعمة التي استخدمها الغرب في أوروبا الشرقية في تلك الفترة هي إنشاء عدد من المؤسسات والبرامج مثل برنامج فولبرايت والمحطات الإذاعية (صوت أمريكا وإذاعة أوروبا الحرة) ونشاطات بعض المؤسسات مثل مؤسسة فورد ومؤسسة روكفلر. كما تتجسّد استخدامات القوى الناعمة فعلياً من خلال ممارسة ما أصبح يعرف بالدبلوماسية العامة التي تعتمد على ما اصطلح عليه «الثورات الحريرية» نسبة إلى نعومة الحرير.
هذه الثورات وقع تسجيلها في أوروبا الوسطى مثل جورجيا (2003) وأوكرانيا (2004) وقرقيزيا (2005). وانتقلت لاحقا إلى الشرق الأوسط مثل ثورة الأرز في لبنان (2005) بعيد اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري والتي أدت إلى رحيل القوات السورية من لبنان.
وتركز «الثورات الحريرية» على توظيف مفهوم «الأسباب الاجتماعية لعدم الرضا» و«البناء الواعي للرفض». كما تتعاون في هذه «الثورات الحريرية» مؤسسات «ثورية» وطنية مع مختصين في الترويج للديمقراطية. وعلى هذا الأساس تم، عبر المنظمات غير الحكومية، إيصال دعم خارجي للنشطاء المحليين يتمثل في العناصر اللوجستية والخبرة في دمقرطة الشعوب.
وبالرغم من أن اختيار مصطلح «الثورات الحريرية» فيه كثير من النعومة، فإننا ما شاهدناه ونشاهده يوميا لا علاقة له بالنعومة، بل سفك يومي للدماء، وقتل عشوائي للأبرياء وتشريد ممنهج للضعفاء، وصورة قاتمة ومذلة للمنطقة العربية لم تشهدها حتّى في أحلك الفترات.
ربما لم نعط الأهمية الكافية أو الانتباه المطلوب لقرار جعل تصدير الديمقراطية المحور الأساسي في السياسة الخارجية الأمريكية التي بدأت فعليا منذ عهد الرئيس الأمريكي رونالد ريغن سنة 1983. إذ تمّ تخصيص جهاز إداري للقيام بهذه المهمة عبر مؤسسة (National Endowment For Democracy “NED”) الممولة أساسا من الكونجرس الأمريكي. ويتمثل الهدف من هذا التصدير في إعادة تشكيل المناطق الاستراتيجية في العالم للضمان والدفاع عن المصالح الأمريكية.
كما ارتبط هذا الملف مع مشروع دمقرطة الشرق الأوسط خلال فترة إدارة جورج بوش الابن. وتواصل موضوع إعادة تشكيل العالم سياسياً جغرافياً مع فترة إدارة بيل كلنتون وارتبط بالرهانات الجديدة لأوراسيا. ولم يتوقف الأمر، بل تواصل مع إدارة الرئيس باراك أوباما بواسطة الترويج لقواعد الحوكمة الرشيدة والمساندة الفاعلة للمجتمع المدني عبر مختصي الديمقراطية والمنظمات غير الحكومية.
وبذلك تخلص معظم الدراسات إلى أن عملية تنفيذ هذا المشروع تبقى متواصلة مهما اختلفت حيثياتها ومهما تغيرت الإدارات على رأس الولايات المتحدة الأمريكية والحكومات الغربية الحليفة سواء كانوا جمهوريين أو ديمقراطيين، يمينيين أو يساريين.
ركزّت إدارة الرئيس بيل كلينتون على القوة الناعمة لوسائل الاتصال ودعّمتها بشبكات المعلومات عبر الإنترنت وتشبيك الكون. وجاءت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كلنتون لتعتمد فكرة دمقرطة البلدان من خلال استخدام أدوات يُنظر لها كأداة مُستقبلية مُحرّرة عبر تكنولوجيات الاتصال.
وتمّ فعلا البدء بتنفيذ هذه الاستراتيجية ضمن الدبلوماسية العامة الأمريكية الجديدة من خلال مشروع (st21 Century Statecraft) الذي يمكن الاطلاع عليه عبر موقع البيت الأبيض.
ويركز هذا المشروع على مساندة وتأهيل المعارضين الافتراضيين في الخارج باسم الدفاع عن حرية تنقل وتدفق المعلومات وضمان حقوق الإنسان. وفي هذا الإطار يلتزم محور (Civil Society 2.0) الذي أطلق في سنة 2009 والمنضوي تحت (Century Statecraft st21)، بالاعتراف بجميع المعارضين حول العالم ومدّهم مجّانا بالتكنولوجيات الرقمية كمساندة لصمودهم ضد الرقابة التي يمكن أن تمارسها الدول على تنقل وتدفق المعلومات.
وجاء بعد ذلك دور المنظمات غير الحكومية ومتخصصي الديمقراطية لعرض كاتلوج الديمقراطية (Democracy manual). إذ شهدت مصر في سنة 2008، دعوة لشباب معارض دعا الى الإضراب العام عبر شبكة فيسبوك، لاقى نجاحاً كبيراً وظهرت إثره حركة 6 إبريل. كما تشير المعلومات إلى أن مجموعة من أعضاء الحركة وقع تدريبهم على تقنيات المعارضة السلمية من قبل نشطاء صربيين منتمين الى مجموعة (OTPOR) التي أطاحت بملوزيفيتش أواخر التسعينيات. ووقعت إعادة تسمية هذه المجموعة إلى (CANVAS) Center For Applied Non Violent Action And Strategies، التي تختص في تقديم الاستشارات حول المظاهرات في الشارع والترويج لها وإبرازها إعلامياً. وأصبح هذا المركز، المركز الدولي المختص في الديمقراطية السلمية بتمويل جزئي من مؤسسة (Freedom House) التي تُمول من قبل الحكومة الفيدرالية الأمريكية. وتشير المعلومات أيضاً إلى أن هذا المركز قام بتدريب نشطاء رقميين أو افتراضيين ليس فقط من مصر بل من تونس وسوريا والبحرين، على تقنيات الصمود السلمي.
لن أطيل بمعلومات باتت معروفة تقريباً لدى الجميع، نشرتها بعض مراكز الدراسات والبحوث، وأكّدت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كلينتون بعضا منها في مذكراتها الأخيرة، لكن ما يهمنا اليوم هو الإجابة عن السؤال الآتي: هل هذه المعلومات والممارسات الجديدة هي فعلاً رأس الحربة للجيوستراتيجية الغربية؟.
أغلب التحاليل السياسية والاقتصادية تتجه إلى تأكيد فرضية أن الغرب وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية تستخدم طاقم معلوماتي-استراتيجي يمكّن من تشغيل مفاتيح مختلف المجتمعات المدنية بهدف التحكم في أوراسيا ومن خلالها التحكم في منافسها الكبير الصين.
تجدر الإشارة في هذا السياق الرجوع إلى ما صدر منذ أكثر من سنتين عن الاقتصادي الفيزيائي الأمريكي «ليندون لاروش» من تحذير فحواه أن الهدف الحقيقي مما يجري من عملية «بلقنة» الشرق الأوسط هو «آسيا»، وبالذات روسيا والصين. وهي عملية، بحسب تعبيره، شبيهة بأزمة البلقان الأولى قبل الحرب العالمية الأولى. وهناك تصريحات عديدة اليوم بما فيها التصريحات الروسية التي تؤكد هذا التحذير، من حيث انها عملية تستهدف الإخلال بمبدأ التوازن الاستراتيجي الدولي (السياسي والاقتصادي) لصالح القطب الأوحد في العالم.
وبقراءة أحداث العراق ومصر وليبيا وسوريا، ومجمل ما يجري في المنطقة منذ عام 2001 حتى اليوم، وبما فيها أحداث أفغانستان وأوكرانيا، باتت الازدواجية السياسية والإعلامية في الممارسات الدولية أمراً واضحاً، ما أدى، بصورة منهجية، إلى صعود قوى راديكالية وأصولية خطيرة لم تعد تخفي توجهاتها المنحصرة في تقسيم بلداننا أثنيا وطائفيا بالمزيد من الصراعات الداخلية والحروب الأهلية، بعيداً عن كل ادعاءات الديمقراطية وحقوق الإنسان، حيث إن أعداد القتلى والمشردين باتت بالملايين، وحيث الفقر والجوع بلغت معدلاته لأرقام قياسية، وحيث تفقد الحكومات السيطرة على إدارة الدولة وحماية أمنها وحدودها.. بما يؤكد نظرية لاروش، أن منطقة الشرق الأوسط تتجه نحو البلقنة.
لقد شدّ انتباهي مقال لجامعي تونسي نشرته جريدة «المغرب» التونسية في أغسطس 2014، يرثي فيه الحالة التي وصلت إليها بلاده بعد الثورة، ويدعو صراحة إلى ثورة جديدة ضدّ «الشعب»، يقول كاتب المقال: «قزّمنا الحاكم وانتهينا منه منذ زمان، فمن يفسد إذاً الحياة؟، انّه «الشعب» وهو اليوم الحاكم في البلاد... حيث تمشي تلقى هنا وهناك بشراً يفعلون ما ارتأوا من دون قيد، في همجيّة، في فساد... هؤلاء هم الشعب بأصنافه يعبث، يفسد، يتسلّط، يمنع الحياة. حيث تمشي تلقى فيالق من العضاريط وقد استولوا على البلاد وظلموا العباد».
إن الحالة التي وصلت إليها بعض الأقطار العربية تدعونا إلى التفكير مجدّدا في خياراتنا الاستراتيجية الداخلية والخارجية، وتدعونا صراحة إلى مواصلة عملية الإصلاح والتطوير، والوعي بالحاجيات والمتطلبات الجديدة لمجتمعاتنا وحمايتها من الانزلاقات الخطيرة، ليُولد الإصلاح والتطوير من رحم المجتمع نفسه وليس بإملاءات خارجية أو باستيراد إحدى كاتالوجات الديمقراطية.
نحن مع الإصلاح والتطوير وليس مع إلغاء الدول أو المجتمعات لتحل محلها مفاهيم جديدة، ربّما تكون متناقضة مع السياق التاريخي لهذه المجتمعات نفسها. كما أن عملية التطوير والإصلاح في جميع المجالات السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية ترتبط بالسياق التاريخي والثقافي للمجتمعات وتحتاج إلى وقت وتمر بالضرورة عبر خطى تدريجية حتّى تتحوّل إلى مبادئ ثابتة، ومن ثم تترسّخ في سلوك أفراد المجتمع وتصبح من تراثه وعاداته وتقاليده السياسية والثقافية.
إن بناء الديمقراطية في الدول يجب أن يكون في ارتباط وثيق بالسياق التاريخي والتطور الطبيعي لشعوبها التي تختلف في تاريخها ونظمها السياسية والاقتصادية والاجتماعية وثقافاتها المحلية. كما أنه من الخطأ اعتبار مفهوم الديمقراطية واحدا وحيدا، لا وجود لغيره، يجب تطبيقه على الشرق كما على الغرب، رغم الاختلافات الثقافية والقيم السياسية والاجتماعية للشعوب.
وأخيرا ربما كان للربيع العربي ألّا يتحول في فترة وجيزة إلى خريف لو أنه احترم دورته الطبيعية ضمن قواعد الطبيعة. والمقصود هنا أن التجارب السياسية والديمقراطية تختلف من دولة إلى دولة أخرى ومن ثقافة إلى ثقافة أخرى ومن زمن إلى زمن آخر، وأن فرض المبادئ أو التغييرات بقوة السلاح أو بفلسفة التنميط، أو من خلال الاستيراد الأعمى للمفاهيم، لا يكتب لها النجاح، وسرعان ما تندثر مع ظهور موضة جديدة.

(ملاحظة: معظم المعلومات الواردة في هذا المقال هو نتائج دراسات صادرة عن مراكز دراسات وبحوث عربية وأجنبية، وخاصة نتائج الدراسة العلمية التي أجراها «المرصد الجيوستراتيجي للإعلام» التابع لمعهد العلاقات الدولية والاستراتيجية بفرنسا، في يوليو 2011).