منذ زمن، لم نسمع صوت إعلامي شريف، يعلن موقف وطني صادق، بنوايا إنسانية أمينة، في منطقتنا الخليجية، كالصوت الذي رفعه الإعلامي القدير الأستاذ أنور عبدالرحمن، رئيس تحرير أخبار الخليج، في مقاله يوم الثلاثاء 5 أغسطس 2008، مصرحاً عن رفضه نشر إعلان مدفوع الأجر (في صفحة كاملة) ضد الرئيس السوداني عمر البشير، لصالح منظمة عاملة في القاهرة تدّعي بأنها تعمل في قضايا العدالة الدولية.. ورغم إن هذا الموقف المعلن لرئيس تحرير صحيفتنا، ليس بغريب عليه أو جديد بالنسبة لي، بعد تجاربنا معاً في التصدي لهجمات الإرهاب الفكري والدفاع عن حرية التعبير عن الرأي، والانتصارات التي تحققت لهذه الصحيفة، بفضل دعمه ومواقفه الوطنية والمبدئية الصادقة، قبل سلوكه الإداري الإنساني الراقي.. رغم إن موقفه الأخير هذا، ليس بجديد أو مفاجئ، إلا إنني أجده مناسبة لأقدم له ألف تحية على وطنيته التي لا يساوم عليها، في هذا الزمان المادي الرخيص الذي صارت فيه المساومة على الوطن، وشراء الإعلاميين، وخصوصاً رؤساء التحرير وكتاب الأعمدة، من القيم المتداولة في العمل الإعلامي، حتى باتت بعض صحفنا أداة رئيسية في المشروع الأمريكي (لإعادة صياغة المنطقة) القائم على التقسيم والمحاصصة الطائفية..
في مقاله، أشار الاستاذ أنور عبدالرحمن بأنه قام باتصال هاتفي بالمنظمة المذكورة، مستفسراً عن هويتها وأهدافها، وسألهم عن أسباب صمتهم على جرائم جورج بوش في العراق، وهي جرائم لم يشهد التاريخ البشري مثلها، فكان جوابهم أن "هذا ليس وقته الآن، نحن نريد التركيز على محاكمة عمر البشير"..

في السطور الثلاثة الأولى من مقدمة بحثه حول "أزمة المعارضة السياسية في الوطن العربي" يؤكد المفكر المغربي عبدالإله بلقزيز، استاذ الفلسفة بجامعة الحسن الثاني في الدار البيضاء، يؤكد إنه "في سائر المجتمعات الحديثة، التي أنجزت ثورتها الاجتماعية وأقامت الدولة الوطنية فيها، يُنظر إلى المعارضة السياسية نظرة تتجاوز إطار الحق والقانون إلى إطار السياسة والمصلحة العامة للوطن والدولة والأمة: بعد إشباع الحق طبعاً".. وبدلاً من نقد السلطة "التي ركزت عليه غالبية الدراسات" يركز الباحث في محور ورقته هذه على نقد المعارضة العربية التي يفترضها أن تكون جزء لا يتجزأ "من محاولة تأسيس الديمقراطية في الوطن العربي على أسس صحيحة وراسخة" (أنظر "المعارضة والسلطة في الوطن العربي/ أزمة المعارضة العربية"، مركز دراسات الوحدة العربية، ديسمبر 2001)..
وفي بحثه هذا، يؤكد مفكرنا بأن طلب الديمقراطيات الغربية على دور المعارضة يأتي في سياق قيمة الدور الذي تقوم به المعارضة.. تلك القيمة التي تتحدد حصرياً في مد الحياة السياسية بالاستقرار وحمايتها من الإضطرابات، وهي القيمة التي تجعل من المعارضة عنصر توازن في المجتمع وليس عبئاً أو مصدر إزعاج للسلطة السياسية في البلاد، أما الشرط الأساسي لحصول المعارضة على هذه القيمة وقيامها بهذا الدور فهو يتحدد في شرعيتها المستمدة من تمثيلها لكل القوى والفئات الاجتماعية وتعبيرها عن مصالحهم بشكل عام، بجانب شرعيتها المستمدة من الضمانات القانونية.
إذن شرعية المعارضة تتمثل، أولاً: في مدى حاجة المجتمع لها، ثانياً: في مدى تمثيلها لكل المجتمع ومصالحه، ثالثاً: في الضمانات القانونية بحقها في الوجود..

هل حقاً الإعلام في الديمقراطيات الغربية ملتزم بمعايير "نظرية المسؤولية الاجتماعية"، وهل هذا الالتزام ذاتي أم بقوة القانون؟.. هل هو إعلام ملتزم أم أداة ترويج للفكر الغربي وسياساته في العالم؟..
منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية فرضت الديمقراطيات الغربية على مجتمعاتها، وعلى مستعمراتها، مشروع "الحرب على الشيوعية"، وتحت هذه الذريعة مارست هذه الدول كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة في قمع كل معارضيها بدعوى انتمائها أو تأييدها أو الإشتباه بتأييدها للفكر الشيوعي.. وسُمّيَت فترة ستينيات وسبعينيات القرن الماضي في الولايات المتحدة الأمريكية بالمكارثية نسبة لمن أسس لهذا القمع الوحشي، فكانت حريات النشر والتعبير عن الرأي ووسائل الإعلام في مقدمة ضحاياه، فلم يخرج في الإعلام أي صوت معارض لتلك السياسيات... وامتد قمعهم الوحشي إلى "مستعمراتهم"، حيث كانت أجهزة المخابرات والمعتقلات في بلداننا العربية، وشبيهاتها من بلدان العالم الثالث، تدار بواسطة جنرالات المخابرات البريطانية والأمريكية، طوال تلك السنوات (قبل وبعد الاستقلال)، بشكل مباشر وغير مباشر.. فخنقت هذه الأجهزة وسائل الإعلام وكل الأصوات المعبّرة عن آمال الشعوب في الحرية والديمقراطية، بدعوى "الحرب على الشيوعية" التي استمرت حتى نهاية القرن العشرين..
ومن أغرب المصادفات (التي نؤمن اليوم بأنها لم تكن مصادفة) إنه في عشية الإعلان عن انتهاء الحرب الباردة و"الحرب على الشيوعية"، وبدء القرن الواحد والعشرين، إذ ببلاد الغرب تتعرض لاعتداء تم تسميته بـ"الإرهابي".. فكانت أحداث 11 سبتمبر 2001 فرصة (لا يمكن أن تكون غير مدبرة) لإطلاق المشروع الاستعماري الجديد "الحرب على الإرهاب"، ليبدأ عصر جديد من قمع الحريات..

لمواجهة خطر الإعلام على مصالح وسيادة أوطاننا، يتعين على كل فرد في مجتمعاتنا العربية التسلح بالوعي الإعلامي والتعرف على مدى خطر الإعلام وكيفية التصدي له كما تتصدى له تلك الديمقراطيات العريقة.. إذ لم تتوانى أية دولة منها، بدعوى حماية أمنها القومي، من الحد من حريات الإعلام والتعبير عن الرأي.. تلك الحريات التي ما برحت الديمقراطيات الأوروأمريكية تتشدّق بأنها عمود نهضتها، ولازال البعض في مجتمعاتنا مبهوراً بها مقارنةً بالممارسات العربية الهزيلة في مجال الإعلام..
يدرس طلبة الإعلام عموماً عن فلسفة الصحافة ونظرياتها، وتوصيفاً لهذه النظريات كما تُمارس في دول العالم (نظريات الصحافة الأربع).. حيث إن جزء من فلسفة الإعلام يبحث في العلاقة الجدلية بين الإعلام كعلم وبين ممارساته الفعلية في الواقع الإجتماعي..