"لقد استبيح العراق بشعارات كاذبة لتخليصه من النظام الديكتاتوري وإقامة الديمقراطية، بعد أن عجزت أمريكا عن إقناع العالم بامتلاكه لأسلحة الدمار الشامل"؛
"لقد استبيح العراق بشعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان، فيما استُخدم ويُستخدم كل يوم أقسى أنواع العنف، والعين على نفطه، وموقعه، والقيمة الاستراتيجية لذلك"؛
"لقد أُعلن العراق بلداً محتلاً، وهو الاحتلال الثاني في منطقتنا، نحن نعرف جيداً المحتل الأول، ونعرف أيضاً أنه طالما قُتلنا بأسلحة المحتل الثاني"؛
"السؤال اليوم، هل سينتهي زمن تقديمنا، و تقديم أنفسنا كأضحية؟، الجواب يتوقف على أمور كثيرة، ليست المقاومة إلا واحد منها. وإن كانت المقاومة نفسها تحتاج إلى نقاش، إلا إنها على رأس الأولويات".
هذه الفقرات وضعت على الغلاف الداخلي لآخر مؤلفات الأديب الكبير عبدالرحمن منيف "العراق... هوامش من التاريخ والمقاومة"، الذي أصدره بُعَيْدَ احتلال العراق، وقُبَيْلَ رحيله إلى العالم الآخر بأشهر معدودة، والذي اعتبره محاولة لاستحضار محطات من تاريخ العراق "متأملاً هذا البلد العربي، الشديد الأهمية بموقعه وثرواته، وهو يتعرّض ربما لأقسى محنة في تاريخه"، محاولاً ترتيب بعض الأوراق خوفاً من أن "تخلط الأوراق، تمهيداً لكتابة تاريخ من نمط جديد، هو تاريخ المنتصر، وبالتالي تغييب وقائع واستحضار غيرها أو بدل عنها". لذلك وضع في كتابه هذا سرداً وثائقياً للتاريخ العراقي ومقاومته لكل أنواع الاستعمار والاحتلال والهيمنة في تاريخه الحديث، مستشهداً بوقائع تستحث الأجيال العربية للوقوف في وجه المحتل الغازي، ومستحضراً "القيم والمفاهيم التي قامت عليها المراحل السابقة" لتاريخ العراق والأمة العربية، بدءاً بالوطنية وانتهاء بالمقاومة المسلحة كأعلى مراتب إنكار الذات والتضحية بالنفس دفاعاً عن الوطن وكل المقدسات.

كيف يمكن أن تخطئ الدراسات الاستراتيجية السياسية والعسكرية الأمريكية في قراءتها للشأن العراقي فيما يتعلق بتبعات وعواقب احتلال العراق؟، وكيف يمكن للديمقراطيات العريقة أن تخطئ في فهم وتقدير دور الشعوب في الدفاع عن نفسها وسيادتها وأوطانها، ضد الاستعمار والاحتلال، في عصر ابتعد طويلاً عن كل أنواع الاحتلال والاستعمار المباشر! بدعوى التحرر والتنمية والعدالة والشرعية الدولية؟، وكيف يمكن أن يعتمد تحريك قطاعات الجيوش والعساكر في العالم لاستعمار الشعوب واحتلال الدول خارج مفاهيم العدالة والحضارة والإنسانية والشرائع والمواثيق الدولية، وعلى أسس هشة قائمة على أعمدة الكذب والزيف والتلفيق المتناهي في الابتذال والقصور الفكري والسياسي؟...
كل هذه الأسئلة تطرح نفسها على المأزق الأمريكي القائم في العراق، بعد مرور أكثر من عامين على الحرب والاحتلال الذي كلّف الولايات المتحدة الأمريكية حتى الآن اكثر من 300 مليار دولار، دون أن تتمكن من الاستفادة من النفط العراقي حتى في تغطية تكاليف جيوشها التي بدأت تعاني من تدني شديد في المعنويات، ومن الخسائر البشرية التي تقدّر بما يزيد على 23000 جريح بعاهات مستديمة وما يزيد على ثلث هذا العدد من القتلى، مما حدا بالبنتاجون للبحث عن السبل الكفيلة بتحقيق "انسحاب مشرف" من العراق كما جاء على لسان الرئيس جورج بوش، في إشارة واضحة إلى اللجوء للتفاوض مع المقاومة لوضع شروط الانسحاب والعلاقات.

كان عقد الثمانينيات بأكمله خاصاً بانتشار قوى ومنظمات الإسلام السياسي الأصولي والسلفي، السني والشيعي في المنطقة الإسلامية، وحينها تم ترتيب التشكيلات الدينية - الطائفية والمذهبية لفتح جبهات صراع جديدة في المنطقة العربية وخصوصا بعد السقوط المريع للاتحاد السوفييتي مع نهاية ذلك العقد واستفراد القطب الأمريكي بحكم العالم، مما جعل التسعينيات عقداً خاصاً بتثبيت أقدام الطائفيات والمذهبيات، وترتيب مؤسساتها، وتنظيماتها الداخلية والخارجية، سواء في العراق وبين العراقيين في الخارج، أو في لبنان ومصر واليمن وشمال افريقية...

يبدو إن الانتقال من مرحلة إلى أخرى في الاستراتيجيات الأمريكية الإسرائيلية المرسومة لمنطقتنا العربية يجب أن يمر عبر الحروب وعلى جثث وأشلاء الضحايا وعبر أنهر من الدماء والتفجيرات البشعة والكارثية التي لا يمكن أن يكون مرتكبيها وفاعليها مخلوقات بشرية وآدمية... بدءاً بالحرب الأهلية التي اندلعت عام 1975 ودامت ثمانية عشر عاماً في لبنان، وتلك الحرب ضد المعسكر الشيوعي التي أكلت ثرواتنا وأبنائنا في عقد الثمانينيات من القرن الماضي في أفغانستان والتي تزامنت مع الحرب الإيرانية العراقية لفترة ثماني سنوات عجاف، لتلحقهما حرب أمريكية على العراق في بداية التسعينيات بدعوى تحرير الكويت، مروراً بأحداث 11 سبتمبر 2001 الفاصلة، لتبدأ مرحلة الغزو المباشر للعراق وإحتلاله وفتح أبواب الجحيم على العراقيين ليمتد لهيبه إلى المنطقة بأسرها. كل تلك الأحداث التي استمرت ثلاثة عقود كانت حلقات انتقالية مفصلية لمراحل سياسية استراتيجية وتاريخية تصب في مصلحة القطب الأمريكي المتقاطعة مع المصلحة الإسرائيلية... حلقات متسلسلة من الحروب والإغتيالات... حروب فرضت علينا، فبلعت بنارها المال والبنون، وغيّرت سلباً بنى مجتمعاتنا الفكرية والثقافية، دون أن نحصد ما يمكن أن يعادل الجزء اليسير من خسائرنا، حتى تنموياً.
لم يكن للمجزرة التفجيرية البشعة التي قضى فيها الرئيس رفيق الحريري أن تمر دون أن يقفز إلى سطح الذاكرة شريط الإغتيالات في لبنان بدءاً بمقتل معروف سعد في صيدا في مارس/آذار 1975 ليكون أحد أسباب إندلاع الحرب الأهلية بلبنان في أبريل/نيسان 1975، لتنطلق منها عملية تغيير موازين القوى في في المنطقة مع كسر قوة المقاومة الفلسطينية وترحيلها من بيروت إلى تونس... تلك الحرب التي كانت بداية المسلسل الذي لم ينتهي حتى الآن...