يبدو إن الانتقال من مرحلة إلى أخرى في الاستراتيجيات الأمريكية الإسرائيلية المرسومة لمنطقتنا العربية يجب أن يمر عبر الحروب وعلى جثث وأشلاء الضحايا وعبر أنهر من الدماء والتفجيرات البشعة والكارثية التي لا يمكن أن يكون مرتكبيها وفاعليها مخلوقات بشرية وآدمية... بدءاً بالحرب الأهلية التي اندلعت عام 1975 ودامت ثمانية عشر عاماً في لبنان، وتلك الحرب ضد المعسكر الشيوعي التي أكلت ثرواتنا وأبنائنا في عقد الثمانينيات من القرن الماضي في أفغانستان والتي تزامنت مع الحرب الإيرانية العراقية لفترة ثماني سنوات عجاف، لتلحقهما حرب أمريكية على العراق في بداية التسعينيات بدعوى تحرير الكويت، مروراً بأحداث 11 سبتمبر 2001 الفاصلة، لتبدأ مرحلة الغزو المباشر للعراق وإحتلاله وفتح أبواب الجحيم على العراقيين ليمتد لهيبه إلى المنطقة بأسرها. كل تلك الأحداث التي استمرت ثلاثة عقود كانت حلقات انتقالية مفصلية لمراحل سياسية استراتيجية وتاريخية تصب في مصلحة القطب الأمريكي المتقاطعة مع المصلحة الإسرائيلية... حلقات متسلسلة من الحروب والإغتيالات... حروب فرضت علينا، فبلعت بنارها المال والبنون، وغيّرت سلباً بنى مجتمعاتنا الفكرية والثقافية، دون أن نحصد ما يمكن أن يعادل الجزء اليسير من خسائرنا، حتى تنموياً.
لم يكن للمجزرة التفجيرية البشعة التي قضى فيها الرئيس رفيق الحريري أن تمر دون أن يقفز إلى سطح الذاكرة شريط الإغتيالات في لبنان بدءاً بمقتل معروف سعد في صيدا في مارس/آذار 1975 ليكون أحد أسباب إندلاع الحرب الأهلية بلبنان في أبريل/نيسان 1975، لتنطلق منها عملية تغيير موازين القوى في في المنطقة مع كسر قوة المقاومة الفلسطينية وترحيلها من بيروت إلى تونس... تلك الحرب التي كانت بداية المسلسل الذي لم ينتهي حتى الآن...

العنوان أعلاه هو لكتاب، صدر قبل الحرب على العراق، من تأليف البروفيسورة آنا ماريلي، أستاذة النقد التاريخي في جامعة بروكسيل, تسلط فيه الضوء على حملة الدعاية المنظمة التي مارستها الولايات المتحدة لإقناع الرأي العام الدولي وكسب تعاطفه لصالح شن الحرب على العراق، ونفذتها الماكينة الإعلامية الحربية الأمريكية بدقة متناهية وبدون كلل, وحسب الكاتبة فقد كان يقف خلف هذه الماكينة جهاز بارع ودقيق يمتلك طريقة خاصة في العمل تكاد تكون صالحة لكل الأوقات ولجميع الحروب تقريباً... وعن أهمية هذه المبادئ العشرة تقول الكاتبة إن قادة الدول يلجأون إليها لكسب تأييد شعوبهم وتعاطفهم في أوقات الحروب، وقد عمل على كشفها آرتور بونسونبي، النائب العمالي في مجلس العموم البريطاني خلال الحرب العالمية الأولى, بسبب مناهضته لمشاركة بريطانيا في تلك الحرب, في كتاب بعنوان "الدعاية في أوقات الحرب" لخص فيه أسلوب الماكينة الإعلامية الحربية في ترويج الأكاذيب في أوقات الحرب لخداع الشعب وكسب تعاطفه.

سبق أن كان لنا رأي في حركة الإسلام السياسي التي نعاصرها منذ ما يزيد على عقدين من الزمن، على إنها بعيدة عن الحركات الإسلامية التي ظهرت في بدايات القرن العشرين على قاعدة الفكر الديني والأهداف الوطنية والقومية المتقدّمة... فحركة الإسلام السياسي المعاصرة تمكنت من الإنتشار بعد التحولات التي حصلت في إيران، وأصبحت قوة ملأت محل القوى الوطنية التي تم قمعها ونسيانها، لتكون القاعدة الأمامية في مواجهة الشيوعية من ناحية، ولملء الفراغ السياسي الذي نشأ مع بدايات عهد الاستقلال وتغيير سياسات المنطقة ضمن التوجه والمصالح الأمريكية، فجاءت بالعنف والتطرف الطائفي والتشديد على إعلان الهوية الدينية والطائفية من خلال مظاهر مختلفة.
لم تتمكن حركة الإسلام السياسي من أن تقوم على مؤسسة إيمانية بقدر ما تحولت إلى حركة أساسها معادلات سياسية، مع الإذعان للضغوط السياسية لإحياء المظاهر الدينية المتطرفة وفرضها على المجتمع الإسلامي، في عملية واسعة من تضييق الحريات وتهميش الدور الإنساني المتسامح للدين، مما حدا بنمو حركة مناهضة للإسلام على المستوى المعنوي والعقائدي وفي الحياة الشخصية للجماهير.

من الملاحظ تزايد عدد المثقفين العرب الذين انفتحت آفاقهم وقرائحهم مؤخراً نحو الدعوة لقبول الغرب المستعمر والمحتل لتقدميته الفكرية والعلمية والمنهجية، كما ارتفع معدّل ظهورهم العلني في الندوات والمحاضرات ليعلّقوا آثام الأمة ومآسيها كلها على شماعة التيار الديني فقط، في هذه المرحلة العصيبة التي تتعرض فيها الأمة العربية والإسلامية للعدوان العسكري على أراضيها، والحصار الاقتصادي على ثرواتها، والتشهير والتشويه الإعلامي لمبادئها وقيمها الإنسانية والإسلامية، تحت طائلة تهمة الإرهاب وتوليد الإرهابيين... فيا ترى هل هذا هو الأوان المناسب لنشر تلك الثقافة الإنهزامية التي لا تصب إلا في دعم مبررات وذرائع وأكاذيب العدوان ضد الأمة، أم هو أوان توحيد الجهود لمواجهة تلك الأكاذيب، وتحشيد الجماهير العربية حول ثقافة المقاومة ورفض الإذلال الاستعماري وكشف أكاذيب وعدائية العدو ومخططاته الإجرامية الهادفة لتحقيق مصالحه فقط، وليس أي شئ آخر!!
من بين هؤلاء المثقفين، استقبلت البحرين خلال الأشهر الأخيرة الأستاذين صادق جلال العظم، وسيد القمني من اليسار العربي، في ندوتين منفصلتين، ليفاجئوا الجمهور البحريني بطروحاتهما القاصرة والأحادية الرؤية حول تشخيص أسباب أزمة التخلف العربي التي حمّلوها بمجملها على الفكر الديني، والسلفي خصوصاً... وكان قد سبقهم السيد هاني الفحص، اليساري سابقاً والديني حالياً، ليقف معهم في نفس التوجه، ولكن بطرح آخر، رغم التزامه بلبس الجبة والعمامة السوداء... وكأننا أمام ظاهرة جديدة تبث الدعوة للإستسلام طلباً للخلاص!!!