على مدار التاريخ كان للعراق تأثير مباشر وعميق في كل المنطقة العربية، بدءاً بامتدادات الحضارات المتعاقبة التي سادت على أرضه منذ بدء الخليقة، انتهاءاً بزلزال الإحتلال والاستعمار الأمريكي الصهيوني البريطاني لهذه الأرض المتوغله في وجدان التاريخ الإنساني والعربي والإسلامي وفي وجدان كل العرب مع بداية الألفية الميلادية الثالثة، ومروراً بما تخلل كل تلك الفترات من صراعات وحروب ومؤامرات استهدفت كل حضاراته بهدف استعماره ونهب خيراته على مدار التاريخ، وما تخلله من فترات الإبداع والإشعاع بالعلوم الإنسانية والطبيعية المختلفة التي تميّز العراقيون بالسبق والفضل بها على كل العالم منذ أقدم العصور.
واستناداً لهذه الحقيقة التاريخية، كان للعراق خلال العقود الثلاثة الأخيرة أبلغ الأثر على الشعب العربي من المحيط إلى الخليج، بما حققه من تقدّم علمي واقتصادي وثقافي وابداعي في سباقه مع الزمن للحاق بركب الحضارة المعاصرة في الانتاج الصناعي المرتبط بالثروة الاقتصادية كسبيل للقوة والاستقلال، مما جعل تفاعل وتأثير كارثة إحتلاله ضارباً ومزلزلاً للمشاعر العربية، بما لا يدع مجالاً للشك بإن تبعاته اللاحقة ستخلق واقعاً عربياً جديداً على مستوى الشعب العربي الذي لم يعد يتحمّل انكسارات أكثر إذلالاً من هذا الاحتلال، رغم محاولات الأنظمة العربية بتجاهل هذه المشاعر وقمع شعوبها المتفاعلة بعمق في الشأن العراقي… وخصوصاً بعدما أثبتت المقاومة في العراق إن البطولات العربية ضد الغزاة والمحتلين لازالت تحتفظ بذات العنفوان التاريخي الذي تميّز به العرب الأوائل، وإنه بمجرد الاصطدام بتحدي الغزو والاحتلال استرجعت الأمة، متمثلة بالعراق، كل تاريخها على مسرح الأحداث لتثبت للعالم بإن الشعب العربي لم يتأثر بأدوار أنظمته المستسلمة للمحتلين…

"لقد استبيح العراق بشعارات كاذبة لتخليصه من النظام الديكتاتوري وإقامة الديمقراطية، بعد أن عجزت أمريكا عن إقناع العالم بامتلاكه لأسلحة الدمار الشامل"؛
"لقد استبيح العراق بشعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان، فيما استُخدم ويُستخدم كل يوم أقسى أنواع العنف، والعين على نفطه، وموقعه، والقيمة الاستراتيجية لذلك"؛
"لقد أُعلن العراق بلداً محتلاً، وهو الاحتلال الثاني في منطقتنا، نحن نعرف جيداً المحتل الأول، ونعرف أيضاً أنه طالما قُتلنا بأسلحة المحتل الثاني"؛
"السؤال اليوم، هل سينتهي زمن تقديمنا، و تقديم أنفسنا كأضحية؟، الجواب يتوقف على أمور كثيرة، ليست المقاومة إلا واحد منها. وإن كانت المقاومة نفسها تحتاج إلى نقاش، إلا إنها على رأس الأولويات".
هذه الفقرات وضعت على الغلاف الداخلي لآخر مؤلفات الأديب الكبير عبدالرحمن منيف "العراق... هوامش من التاريخ والمقاومة"، الذي أصدره بُعَيْدَ احتلال العراق، وقُبَيْلَ رحيله إلى العالم الآخر بأشهر معدودة، والذي اعتبره محاولة لاستحضار محطات من تاريخ العراق "متأملاً هذا البلد العربي، الشديد الأهمية بموقعه وثرواته، وهو يتعرّض ربما لأقسى محنة في تاريخه"، محاولاً ترتيب بعض الأوراق خوفاً من أن "تخلط الأوراق، تمهيداً لكتابة تاريخ من نمط جديد، هو تاريخ المنتصر، وبالتالي تغييب وقائع واستحضار غيرها أو بدل عنها". لذلك وضع في كتابه هذا سرداً وثائقياً للتاريخ العراقي ومقاومته لكل أنواع الاستعمار والاحتلال والهيمنة في تاريخه الحديث، مستشهداً بوقائع تستحث الأجيال العربية للوقوف في وجه المحتل الغازي، ومستحضراً "القيم والمفاهيم التي قامت عليها المراحل السابقة" لتاريخ العراق والأمة العربية، بدءاً بالوطنية وانتهاء بالمقاومة المسلحة كأعلى مراتب إنكار الذات والتضحية بالنفس دفاعاً عن الوطن وكل المقدسات.

كيف يمكن أن تخطئ الدراسات الاستراتيجية السياسية والعسكرية الأمريكية في قراءتها للشأن العراقي فيما يتعلق بتبعات وعواقب احتلال العراق؟، وكيف يمكن للديمقراطيات العريقة أن تخطئ في فهم وتقدير دور الشعوب في الدفاع عن نفسها وسيادتها وأوطانها، ضد الاستعمار والاحتلال، في عصر ابتعد طويلاً عن كل أنواع الاحتلال والاستعمار المباشر! بدعوى التحرر والتنمية والعدالة والشرعية الدولية؟، وكيف يمكن أن يعتمد تحريك قطاعات الجيوش والعساكر في العالم لاستعمار الشعوب واحتلال الدول خارج مفاهيم العدالة والحضارة والإنسانية والشرائع والمواثيق الدولية، وعلى أسس هشة قائمة على أعمدة الكذب والزيف والتلفيق المتناهي في الابتذال والقصور الفكري والسياسي؟...
كل هذه الأسئلة تطرح نفسها على المأزق الأمريكي القائم في العراق، بعد مرور أكثر من عامين على الحرب والاحتلال الذي كلّف الولايات المتحدة الأمريكية حتى الآن اكثر من 300 مليار دولار، دون أن تتمكن من الاستفادة من النفط العراقي حتى في تغطية تكاليف جيوشها التي بدأت تعاني من تدني شديد في المعنويات، ومن الخسائر البشرية التي تقدّر بما يزيد على 23000 جريح بعاهات مستديمة وما يزيد على ثلث هذا العدد من القتلى، مما حدا بالبنتاجون للبحث عن السبل الكفيلة بتحقيق "انسحاب مشرف" من العراق كما جاء على لسان الرئيس جورج بوش، في إشارة واضحة إلى اللجوء للتفاوض مع المقاومة لوضع شروط الانسحاب والعلاقات.

كان عقد الثمانينيات بأكمله خاصاً بانتشار قوى ومنظمات الإسلام السياسي الأصولي والسلفي، السني والشيعي في المنطقة الإسلامية، وحينها تم ترتيب التشكيلات الدينية - الطائفية والمذهبية لفتح جبهات صراع جديدة في المنطقة العربية وخصوصا بعد السقوط المريع للاتحاد السوفييتي مع نهاية ذلك العقد واستفراد القطب الأمريكي بحكم العالم، مما جعل التسعينيات عقداً خاصاً بتثبيت أقدام الطائفيات والمذهبيات، وترتيب مؤسساتها، وتنظيماتها الداخلية والخارجية، سواء في العراق وبين العراقيين في الخارج، أو في لبنان ومصر واليمن وشمال افريقية...