مع بداية ظهور علامات انهيار القطب الشيوعي، الذي بذريعته هيمن القطب الأمريكي، على مناطق النفوذ والثروة بالعالم في صراع استمر أكثر من نصف قرن، مع تلك العلامات كان على هذا القطب الأخير، الطامح في قيادة العالم، البحث عن السبل الكفيلة بفرض اسس وسياسات استعمارية جديدة تسمح للاخطبوط الأمريكي بالاستيلاء على كل مواقع القوة والنفوذ في العالم وردع الشعوب التي يمكن أن تبدي مقاومة أو اعتراض مباشر أو غير مباشر على هذه السياسات.
وتماشياً مع استراتيجيات الحرب الباردة، وعلى طريق البحث عن تلك السبل الاستعمارية الجديدة، تفتقت العبقرية الأمريكية على فكرة إحلال خطر الإرهاب محل الخطر الشيوعي القديم الذي تم تصويره، طوال فترة القرن الماضي، كالشيطان بهدف كسب الحرب الباردة ضده... فكان المطلوب صناعة الإرهاب كخطر أو ظاهرة أو ذريعة جديدة لتمكين الاستعمار الأمريكي من شن حرب عالمية، بإسلوب العصر وبشرعية دولية، لفرض السيطرة المباشرة على منابع النفط والثروة قبل أن يقوم أي قطب صناعي آخر في العالم بالسبق نحو تلك المنابع التي تعد نفوذاً اقتصادياً خطيراً لمن يملك مفاتيح السيطرة عليها.

في ليلة رمضانية بتاريخ 29 أكتوبر 1971، وفي "حسينية الإرشاد" بمدينة طهران، ألقى الدكتور علي شريعتي، الملقب بـ"معلم الثورة" الإيرانية ومنظرها ومهندسها، محاضرة في حشد من الشباب الإيراني بعنوان "التشيع العلوي والتشيع الصفوي"، كشف فيها بإسهاب عن حقيقة التشيع الصفوي وأصوله وتراثه وتأثيراته السلبية على الشيعة الجعفرية وعلى الإسلام، والتي كان أهمها تشويه التاريخ الإسلامي، وتزوير الحقائق وبث الفرقة بين المذاهب الإسلامية، وفصل الشيعة الجعفرية (العلوية) عن الأمة الإسلامية ووضعها في حالة من العزلة التامة عن أصولها وجذورها وبيئتها على مدى قرون طويلة... نستعرض هنا بعض مما جاء في تلك المحاضرة التي تم جمع ونشر نصها الكامل بواسطة مكتب "المعلم" في كتاب من 313 صفحة وبذات العنوان، صادر عن دار الأمير للثقافة والعلوم (بيروت/2002).
تحت عنوان جانبي عن "مونتاج الدين-القومية" يؤكد الدكتور شريعتي بأن الحركة الصفوية أرست دعائم حكومتها على أساسين محكمين وهما المذهب الشيعي والقومية الإيرانية بهدف عزل إيران عن الأمة الإسلامية وتمييزها عن العنصر العربي والخروج من إطار الهيمنة العثمانية لمنافستها في بناء إمبراطوريتها. وتاريخياً يُرجع الكاتب تاريخ بدء ظهور الشعور العرقي في نفوس الإيرانيين إلى أواخر فترة الخلافة الأموية، عندما بدأت الخلاقة الإسلامية بالانحسار لتحل محلها مظاهر الحكومة العربية التي أحيت التفاخر بالأصل العربي، مما أدى لظهور الفعل المقابل له ببروز الشعور العرقي في نفوس الفرس والدعوة لإحياء تيارات الاعتزاز بالهوية الفارسية، فبرزت منهم الحركة الشعوبية التي حملت في بدايتها شعار "التسوية" أي المساواة بالعرب بموجب الآية "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله اتقاكم"...

"لا تَشْتَدّنّ عليكم فرّة بعدها كرّة، ولا جولة بعدها حملة، وأعطوا السيوف حقوقها، ووطَئوا للجُنُوبْ مصارعها، وأذْمُرُوا أنفسكم على الطعن الدّعسِي، والضرب الطّلحَفي، وأميتوا الأصوات فإنه أطرد للفشل، فوالذي فلق الحبة وبَرَأ النسَمَة ما أسلَموا ولكن استسلموا وأسرّوا الكُفْر، فلَمّا وجدوا أعواناً عليه أظهروه"
(نهج البلاغة، الجزء الثالث، "قول الإمام علي عليه السلام لأصحابه عند الحرب")
حظيت الحركات الوطنية والشعبية والمقاومات المسلحة والسلمية، التي نشأت قبل وبعد الحرب العالمية الثانية، بإهتمام إعلامي وأدبي واسع، فكانت مادة ثرية للمتخصصين بها من الكتاب والصحفيين والروائيين الذين تناولوها، حسب أهميتها، بالطرح المباشر أيديولوجياً وتاريخياً وسيرة ومساراً، أو بالطرح الأدبي والروائي والتوثيقي والخيالي. وكان ذلك الأهتمام والدافع برصد تلك الحركات متزامناً مع المد الثوري، الذي وإن بدأ من بعد الحرب العالمية الأولى، إلا إنه إزداد زخماً وانتشاراً على مدار ثلاثة عقود منذ انتهاء الحرب الكونية الثانية. ومع تحقيق تلك الثورات لأهدافها وانتصاراتها ونجاحاتها الباهرة حفرت في ذاكرة التاريخ دروساً إنسانية لا يمكن أن تُهمَل أو تُنسَى، فتحولت، مع الزمن، إلى علوم عسكرية وسياسية تُدَرّس في جامعات العالم.
اشتركت كل تلك الحركات الوطنية في سماتها الأساسية، التي تعد النواة الأساسية لانتصاراتها، والمتمثلة في المعايير والمفاهيم الروحية التي عملت كقوة دافعة ومحركة لكل الآلاف المؤلفة من العناصر البشرية التي انخرطت بها، وأهم تلك المعايير هو الإيمان الصادق والمخلص بالوطن وبمبادئ التضحية والكرامة الممزوجة بقيم القوة والشجاعة والحق ونكران الذات، وهي قيم ومبادئ يصعب على المجتمعات المادية أن تتفهم حقيقتها الجوهرية المعاكسة تماماً لأنانية المستعمر وهيمنته على الشعوب لنهب وسرقة ثرواتها.

منذ رسمونا ووضعونا في حدود سايكس بيكو ( ۱۹۱۷ ) وحتى يومنا هذا أصبحنا أمة معتقلة بين أضلعها المستطيلة والمربعة وغير متساوية الأضلاع ولأن "الزمن كليل بتقليص الأخطاء:، حسب مفاهيم الغربيين، اعتمدوا أن يتحول هذا الوضع الشاذ إلى حقيقة وأمر واقع يقاس عليه الشأن العربي، فتحولت جريمة سايكس بيكو الاستعمارية إلى قاعدة وكل ما سواها شاذ وخطا، يجب النقيد به وشن الحرب ضده. وهكذا أصبحت هذه الأشكال الهندسية سجوناً تعلق الأنظمة العربية حراسة أمنين عليها، ومدافعين عنها، متزلفين لمتعهدي سايكس بيكو الذين عملوا كل ما بوسعهم للإبقاء على هذه الحدود ورفع اسوارها عالياً على مدار قرن من الزمن "للحيلولة دون الوحدة العربية"، كما جاء في وثائقهم، ففشلت كل محاولات الوحدة الثنائية والثلاثية والرباعية وحتى التعاونية لأنها لم تحصل على مباركة المستعمر ودعواته المخلصة . لكل ذالك، أصبح واضحاً وأكيداً، إن أي شكل أو نوع من أنواع الوحدة بين العرب لن يكتب له النجاح ما لم يُفرض بواسطة الشعب العربي، رغماً عن متعهدي سايكس بيكو وحراسها الأمناء.