لا يزال الكثير من مثقفينا العرب يحبذون التفكير بعيداً عن التحليل التاريخي للدور الإمريكي في المنطقة وفي العالم، وما يحمله ذلك التاريخ من توقعات لا تستوعبه دائرة الفكر العربي (قصير الأفق)، حيث من خلال كل تلك المؤتمرات التي نحضرها داخل وخارج البحرين، يُسَتَشف إن عدداً غير قليل من هؤلاء المثقفين العرب لا يزال يطرح قصة النصف الممتلئ والنصف الخالي من الكوب عند تصنيف علاقاتنا مع الولايات المتحدة الإمريكية للإبتعاد عن التشاؤم، وكأن تلك القصة أصبحت نظرية يستوجب تطبيقها حتى النهاية وفي جميع القضايا من خلال زاوية الكوب الممتلئ فقط ، لما يحمله النصف الخالي من تشاؤم ليس من شيَم الواقعية والنظرة الإنفتاحية على الحياة.

من الواضح إن الإدارة الإمريكية في طريقها لتفعيل قرارها للتخلص من لقب (المحتل) و(الإحتلال) في العراق، قبل بدء العمليات المباشرة للإنتخابات الإمريكية القادمة التي سيخوض فيها الرئيس بوش معركته الإنتخابية للفوز بالدورة الرئاسية الثانية، حيث إن هذا القرار لهو على درجة قصوى من الأهمية لهذه الإدارة الإمريكية مما جعلها في حالة إصرار على تسليم السلطة (وليس السيادة) إلى العراقيين في نهاية شهر يونيو (حزيران) القادم، تحت أي ظرف كان، خارج إطار الإنتخابات الشرعية، مع التأكد من ضمان تسليم هذه السلطة لحكومة من أهم صفاتها أن تكون طيّعة الإنقياد تحت الإمرة والسيادة الإمريكية، وإلا فسوف تضيع، هباءً، تلك التضحيات الكبرى التي قدمتها الإدارة الإمريكية، للإستيلاء على العراق عتاداً وعدة، شعباً وثروة، أرضاً وفضاءً.
يعد التخلّص من صفة المحتل للعراق دعماً مرحلياً لحملة الرئيس بوش الإنتخابية، لما تلاقي هذه السياسة الإمريكية، منذ ما قبل الحرب، من معارضة شعبية واسعة النطاق في الولايات المتحدة، إضافة إلى ما سوف تخلقه (حالة) إنتهاء الإحتلال شعور واسع بالغبطة، لدى الإمريكيين، لرجوع أبنائهم، الذي قد يتم ترتيبه بشكل إحتفالي يتناسب مع عودة الأبطال المنتصرين من حرب مصيرية (وليس حرب إحتلالية، بربرية، وغير إنسانية)...

يذكر، ناصيف نصّار، في كتابه (في التربية والسياسة) إنه لا يوجد في تاريخ الفكر السياسي أو في تاريخ الدول ما يثبت وجود نموذج واحد جاهز وثابت للتربية المواطنية تطبق على جميع المجتمعات، لذا يتطلب من الدول والأمم خلق النماذج الخاصة بمصالحها وتاريخها، وبما يتناسب مع ثقافاتها وتراثها ومعطياتها والظروف التي تمر بها. وهنا يعطي الكاتب مثالاً على إن الدول التي تمكنت من الوصول إلى زرع الولاء والإنتماء الوطني في أفرادها لن تقابل نفس الدرجة من الصعوبة التي تجدها الدول الممزقة بين مختلف التيارات والولاءات الداخلية والخارجية، والروابط المذهبية والعشائرية والطائفية، رغم إن حاجة هذه الدول للتربية المواطنية تكون أكثر إلحاحاً وضرورة.
ولتفسير التربية المواطنية كعلاقة تربوية، يشير الكاتب إلى أنها شبيهة بالعلاقة التي تكون بين المُرسِل والمُرسَل له، أو المربي والمتربي، والتي عادة ما تنشأ بين الأستاذ والطالب في جميع العلوم العقلية والدينية وغيرها، لذلك عادة ما تكون الدولة هي الطرف المربي والشعب هو المتربي. لذلك يؤكد الكاتب على إن الدول الديمقراطية، التي تحترم مبدأ الحرية، لا يمكنها المحافظة" على وجودها في هذا العصر، والعصور الآتية دون الإهتمام جدياً بالتربية المواطنية في جميع مراحل التعليم المدرسي"، لانها بذلك تعلّم مواطنيها الحرية المسؤولة والمساواة الديمقراطية، والتي من المهم جداً أن يتعلمها الإنسان بدأً من السنوات الأولى في المدرسة "وهو طري العود، ومستعد للتكيّف بحسب ما يقدمه له المسؤولون عن تربيته"... ويأتي بعد المدرسة الدور الهام الذي يمارسه الإعلام في نشر هذا الوعي والمساعدة في حمل أعباء التربية المواطنية إذا تم استخدامه بأساليب وآليات مناسبة لبلوغ ذلك الهدف... أو الوقوف بعيداً عن ممارسة أي دور عكسي يؤثر سلباً على الوعي المواطني في المجتمع.

هناك شبه إتفاق، بين قطاع كبير من العرب، بمختلف مستوياتهم الثقافية والعلمية، حول ضعف الأداء الوطني للمواطن العربي وسلبيته وذاتيته في ذلك العطاء (إن وجد)، أي إعلاء المصالح الذاتية المباشرة للفرد العربي على عطائه للوطن، والتي في الغالبية تكون مصالح بعيدة عن مصالح الوطن والأمة... ولربما كان واقعنا الخليجي يعطي أكبر مثال على ذلك... من خلال سلوك الفرد الخليجي أو سلوك المثقفين وأصحاب المناصب وأصحاب رؤوس الأموال الهاربة للإستثمار أو للتخزين خارج المنطقة.
فيا ترى هل يمكن إعتبار ذلك حالة طبيعية، وهل الأمم المتحضرة، التي استطاعت بناء حضاراتها العصرية، تعاني من تلك المشكلة الجوهرية؟... مشكلة تدني المواطنية والولاء، التي لا يمكن إلا أن تنخر في أسس بنائها الحضاري، أو بالأحرى هل يمكن أن يقوم أي بناء حضاري لشعب لا يجيد البناء والعطاء والدفاع عن الوطن والولاء له؟...
في بحثي الدائم عن الإجابة على هذه التساؤلات... وقع بين يدي كتاب فلسفي للكاتب اللبناني، ناصيف نصّار، يتناول مفاهيم ومشاكل التربية السياسية للإجابة على ذلك التساؤل المصيري، وهو "متى يصير الفرد في الدولة العربية، مواطناً؟"