هناك ما يدفعنا للتمعن في بعض الظواهر الأولية للفساد الإداري، الواضحة للعيان وضوح الشمس، والملفتة للتساؤل بما لا يمكن التنكر لها والتعتيم حولها، وعادة ما يكون وضوحها متألقاً في المجتمعات الصغيرة مثل المجتمع البحريني، وهناك ما يدفعنا، في هذا المجال، للتمعن في ظاهرة الرشوة (العمولة) وعلاقتها المباشرة بمظاهر الثراء الفاحش والمفاجئ التي غالباً ما تظهر على الموظفين الكبار في القطاع الحكومي، وبالأخص في القطاعات الخدمية الهامة. هذا الثراء الذي لا يمكن إلا أن يتساءل كل مواطن حول من أين وكيف حدث في غفلة من الزمن، فهل يمكن أن يتحول الموظف الحكومي، حتى لو كان وزيراً، من موقع مالي أقل من بسيط، إلى صاحب أملاك وعقارات وأرصدة مالية بأرقام خيالية، وسكن خاص يشكل ثروة تفوق رقم المليون ويضاهي سكن الملوك. هل هناك إمكانية الوصول إلى الثراء بواسطة الراتب الشهري في فترة زمنية قياسية دون اللجوء إلى أساليب اللف والاحتيال والفساد الإداري.

في عصر التحديات التي باتت تطوق كافة أبعاد حياتنا، لم تعد الحياة تسمح بالسكون أو غرس الرؤوس بالرمال، بل لابد من الديناميكية والتجديد في كل مناحي الإدارة ومواكبة التغيير الفعال.
وإذا كنا كأنظمة وشعوب جادين في ضمان التنمية الشاملة وتهيئة المناخات الصحية، فلابد أن تكون الإدارة والقيادة والسلطة جنباً بجنب مع المجتمع المدني على مستوى التحديات، وأن تتعامل مع رياح التغيير وما تحمله بين طياتها من آمال وأحلام واستعداد للتكيّف مع أحداث التغيير المدروس، والعمل على إحداثه.

رغم أن الفساد الإداري يعد أحد أكثر المشكلات التي تواجه السياسة العامة في دول العالم ، وبخاصة النامية منها ، إلا أن نادراً ما تناولته الدراسات ، في مجتمعاتنا العربية ، بشكل علمي وعملي ، إذ يتم التركيز دائماً إما على وصف الظاهرة أو على اسـتعراض أسبابها والمفاهيم المتعلقة بها نظرياً ، أي البحث حول الظاهرة دون الإستناد إلى أرقام وحقائق من واقع الأجهزة الإدارية المختلفة ، ونادراً ما يكون هناك إستعراض لاتجاهات العاملين أو الرأي العام أو القيادات السياسية والإدارية بخصوصها ، وهذا يرجع بالطبع للتعتيم وعدم الكشف عن المعلومات ، وعدم توفر مصادر المعلومات الموثقة واللازمة لإجراء هذا النوع من البحوث والتحليلات ، إضافة إلى أن هذا التعتيم على المعلومات يعد أحد أكثر الآليات المستخدمة في إضعاف قدرات الأجهزة التشريعية في التعمق في قضايا الفساد والإداري وممارسة حق المحاسبة والمساءلة في هذا الشأن.

يعد الفساد الإداري أحد أكثر المشاكل التي تواجه السياسة العامة في القطاعين العام والخاص في دول العالم بشكل عام، وأحد أكبر الآفات السياسية في الدول النامية بشكل خاص.
ويعد الفساد الإداري في عالمنا العربي أحد أكبر أسباب تراجع وتدني الإبداعات البشرية، كما هو السبب الرئيسي في إخراج الكفاءات المخلصة والشريفة والمحترفة إلى خارج دائرة العطاء والتنمية وإحلال العناصر الضعيفة والمتدنية الكفاءة والتأهيل مكانهم، فيكون الناتج هزيلاً وضعيفاً، يدفع ثمنه المواطن العادي الذي لا حول له ولا قوة.
أما في البحرين فيكاد الفساد الإداري أن يقول ها أنا ذا (خذوني) ... إذ لا يمكن لأي إنسان أن يغض الطرف ، حتى لو شاء ذلك ، عن هذه الآفة السياسية المستشرية ، في الأغلبية العظمى من مرافق البحرين الخاصة والعامة ، والتي على مدار عقود من الزمن ، كانت ولا زالت ، عائقاً تنموياً ، كما كانت سبباً من أسباب تدني المستوى التعليمي والمهني والخدمي والتخطيطي بشكل عام ، كما كانت سبباً أساسياً للتسرب البشري والمادي والإخفاقات الكبيرة في مجمل المشاريع الخدمية والعمرانية والإستثمارية ، وسبباً في الكثير من القضايا التي حان الوقت أن يؤدي الإعلام دوره الحقيقي في الكشف عنها بهدف وضع حد لهذه الآفة وللمستفيدين من إستمراريتها دون رقابة أو محاسبة.