لا يخفى على جميع المخضرمين في العمل السياسي مدى التغيّر في ثوابت هذا العمل إلى درجة إنقلاب بعض تلك الثوابت للوضع المعاكس تماماً، أي إلى درجة أن يتحول ما كان محرماً وما كان يعد من الجرائم الوطنية الكبرى في السابق ليصبح من الثوابت الوطنية في الوقت الحاضر. ولكن رغم ذلك لا يمكن لهؤلاء أن يعتبروا الولايات المتحدة الأمريكية، وهي الدولة الإمبريالية الكبرى التي إزدادت إمبريالية وطغياناً بعد إنتهاء الحرب الباردة وإنتهاء أسس التوازن الدولي، إن يعتبروا هذه الدولة قادرة أن تكون اليوم مصدر الديمقراطية والعدالة الإجتماعية المنصفة لمصالح الشـعوب في مناطقنا إجمالاً، ومناطقنا تعني دول الجنوب التي تعد دولنا من عدادها رغم كل ما تملك من ثروات تُمَكّنها من أن تتحول إلى جنة من الرفاهية الإقتصادية. وما يجب أن نعلمه ونؤمن به جميعاً إن مصالح هذا النظام الإمبريالي العالمي الجديد لا يمكن أن تتحقق مع تحقيق العدالة والمصالح الوطنية لدولنا ، لأن هذه المصالح متضاربة مع مصالحهم لدينا، إضافة إلى أن هذا النظام الدولي لا يتعامل بمفاهيم الدول الصديقة أو الحليفة، وما هذه المصطلحات في قواميسهم إلا تعابير شفوية مفرغة من معانيها الحقيقية وتستعمل عند الحاجة لكسب ود بعض القيادات والأنظمة التي يعد لها دور مرحلي وشكلي في المخططات

خلال الفترة القريبة الماضية تم طرح وجهات نظر متنوعة حول خطاب جلالة الملك بمناسبة إفتتاح الدورة الثانية للمجلس الوطني بالإضافة إلى خطاب جلالته إلى سمو رئيس الوزراء وخطاب الرد المرسل من سموه واللذين أتيا بنفس المناسبة، وكما هو الحال دائماً، كان التفاوت في وجهات النظر هذه تشكل مثالاً حياً لنظرية رؤية نصف الكأس الملآن والنصف الخالي. لذلك نرى أهمية وضرورة إيجاد المزيد من الفرص لخلق رؤية واقعية حول هذه الخطابات المتبادلة التي ترسم سياسة مستقبلية تعد على جانب من الأهمية للمجتمع البحريني، كما تمثل واقعاً حياً نعيشه جميعاً ولنا الدور الأساسي في المشاركة في تحقيق أركانه سواء سلباً أم إيجاباً، على أن تكون رؤية تجسد النوايا الحسنة والموضوعية والإيجابية بهدف البحث عن نقاط التقاء وليس العكس.

يدور الحديث بين أوساط أخواننا العرب في البحرين، عن ظاهرة جديدة في سلوكيات البحرينيين لم تكن موجودة سابقاً وهي ظاهرة رفضهم للوجود العربي على أرض البحرين سواء أولئك الحاصلين منهم على الجنسية البحرينية وتحولوا إلى مواطنين كاملي الحقوق والواجبات أم أولئك الذين لم يطالبوا بالجنسية ولم يحصلوا عليها، علماً بأنهم جميعاً يملكون كامل الحق في المطالبة والحصول على هذه الجنسية حسب جميع الدساتير والشرائع الدولية، نظراً لظروف إقامتهم الدائمة في البحرين، التي تمتد إلى عقود طويلة، نتيجة لظروف عملهم. كما هم يتذكرون، ونتذكر معهم، إن أهم ما كان يميز البحرين وأهلها هي تلك السمة الجميلة من السماحة وقبول الآخر والإنفتاح والإندماج الإجتماعي بين جميع فئاتها، العربية وغير العربية التي كانت تنزح إلى البحرين لأغراض مختلفة، فما الذي حصل اليوم لكي يتحول هذا الشعب إلى هذا الموقف الرافض للوجود العربي في البحرين، رغم إن لهؤلاء الكثير من الأفضال على البحرين وأهلها.

تهتم المجتمعات المتحضرة إهتماماً بالغاً بدورها في تصنيف شخصياتها الثقافية العامة تصنيفاً دقيقاً، بهدف وضع المعايير السليمة لمنع ظاهرة هرولة هذا النوع من الشخصيات نحو تحقيق مصالح الذات الفردية على حساب مصالح الوطن . لذلك تعلمت تلك المجتمعات، مع الزمن وبشكل جماعي، أن لا تبخس تلك الشخصيات حقها بأقل من قدراتها الحقيقية، وتعلمت كيف تحترم وتشجع الشخصيات المخلصة والمتزنة والمبدعة إبداعاً أصيلاً للإستفادة القصوى من مساهماتها وإبداعاتها في مجالاتها المتخصصة وخدماتها المجتمعية. وفي الجانب الآخر تعلمت تلك المجتمعات أيضاً أن لا تبالغ في إعطاء أنصاف المثقفين، أو مدعي الثقافة والإبداع، أكثر من قيمهم الحقيقية أو رفعهم إلى مواقع عامة دون أي إستحقاق حقيقي ومخلص، لما يمكن أن تشكل هذه الشخصيات من أخطار على المجتمع لعدم إمتلاكها القدرة على تقدير الأثر السلبي لأدوارها على المجتمع، ولإنحسار جل أدوارها في البحث عما يمكن أن يحقق مصالحها ، فقط ، على حساب مصالح المجتمع والوطن بشكل عام. وهكذا أصبحت تلك المجتمعات أكثر صراحة في مواجهة ومحاسبة شخصياتها العامة، كما هي أكثر دقة في تعريف وتقييم تلك الشخصيات ومعرفة مستوياتها الثقافية والتزاماتها تجاه المجتمع، كما أصبحت تعرف كيف ترفع كفة القديرين والمبدعين وكيف تنزل المزيفين من على المنابر العامة.